إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

القسم السادس

          سادسها: ما اختُلِف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا لا يترتَّب عليه قدحٌ؛ لإمكان الجمع في المختلف من ذلك أو التَّرجيح، كحديث جابرٍ في قصَّة الجمل [خ¦2097]، وحديثه في وفاء دَين أبيه [خ¦2127]، وحديث أبي هريرة في قصَّة ذي اليدين [خ¦482] وربَّما يقع التَّنبيه على شيءٍ من هذه الأقسام / في موضعه من هذا الشرح بتوفيق الله تعالى ومعونته. والذي في «البخاريِّ» من هذه الأقسام مئة حديثٍ وعشرة أحاديث، شاركه في كثيرٍ منها مسلمٌ، لا نطيل بسردها، وأمَّا الجواب عمَّن طُعِنَ فيه من رجال البخاريِّ فليعلم(1) أنَّ تخريج صاحب الصَّحيح لأيِّ راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده، وصحَّة ضبطه وعدم غفلته، مع ما انضاف لذلك من إطلاق(2) جمهور الأمَّة على تسمية الكتابين بـ «الصَّحيحين»، وهذا معنًى لم يحصل لغير من خُرِّج عنه في «الصَّحيحين»، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذُكِرَ فيهما، ولا يُقبَل الطَّعن في أحدٍ من رواتهما إلَّا بقادحٍ واضحٍ؛ لأنَّ أسباب القدح _كما مرَّ_ مختلفةٌ، ومداره هنا على خمسةٍ: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع بالسَّند؛ بأن يُدَّعَىَ في راويه(3) أنَّه كان يدلِّس ويرسل.
          فأمَّا البدعة؛ فالموصوف بها إن كان غير داعيةٍ قُبِل، وإلَّا فلا، وقال ابن دقيقٍ العيد: إن وافق غير الدَّاعية غيره فلا يُلتَفت إليه؛ إخمادًا لبدعته وإطفاءً لناره، وإن لم يوافقه أحدٌ، ولم يوجد ذلك الحديث إلَّا عنده، مع كونه صادقًا متحرِّزًا عن الكذب، مشهورًا بالتَّديُّن، وعدم تعلُّق ذلك الحديث ببدعته؛ فينبغي أن تُقدَّم مصلحة‼ تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السُّنَّة على مصلحة إهانته.
          وأمَّا المخالفة، وينشأ عنها الشُّذوذ والنَّكارة؛ فإذا روى الضَّابط والصَّدوق شيئًا، فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددًا بخلاف ما روى؛ بحيث يتعذَّر الجمع على قواعد المحدِّثين فهذا شاذٌّ، وقد تشتدُّ المخالفة أو يضعف الحفظ، فيحكم على ما يخالف فيه بكونه مُنكَرًا، وهذا ليس في «الصَّحيح» منه سوى نزرٍ يسيرٍ.
          وأمَّا الغلط؛ فتارةً يَكثُر من الرَّاوي، وتارةً يقلُّ، فحيث يُوصَف بكونه كثير الغلط يُنظَر فيما أُخرِج له، إن وُجِدَ مرويًّا عنده وعند غيره من رواية غير هذا الموصوف عُلِمَ أنَّ المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطَّريق، وإن لم يوجد إِلَّا من طريقه فهو قادحٌ يُوجِب التَّوقُّف عن الحكم بصحَّة ما هذا سبيله، وليس في «الصَّحيح» بحمد الله تعالى من ذلك شيءٌ.
          وأمَّا الجهالة فمندفعةٌ عن جميع من أُخرِج لهم في «الصَّحيح»؛ لأنَّ شرط الصَّحيح أن يكون راويه معروفًا بالعدالة، فمن زعم أنَّ أحدًا منهم مجهولٌ فكأنَّه نازع المصنِّف في دعواه أنَّه معروفٌ، ولا ريب أنَّ المدَّعي لمعرفته مقدَّمٌ على من يدَّعي عدم معرفته؛ لما مع المثبِت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا نجد في رجال الصَّحيح من(4) يُسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلًا.
          وأمَّا دعوى الانقطاع فمدفوعةٌ عمَّن أخرج لهم البخاريُّ؛ لما عُلِمَ من شرطه، ولا نطيل بسرد أسمائهم وردِّ ما قِيل فيهم.


[1] في (ص): «فليسلم».
[2] في (س): «إطباق».
[3] في (ص) و (م): «الرِّواية».
[4] في غير (ب) و (د): «ممَّن».