إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

سورة الفاتحة

          ░░░1▒▒▒ (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ: اسْمَانِ) مشتقَّانِ (مِنَ الرَّحْمَةِ) وزعم بعضهم أنَّه غير مشتقٍّ لقولهم: {وَمَا الرَّحْمَنُ}[الفرقان:60]؟ وأجيب بأنَّهم جَهِلُوا الصِّفة لا الموصوف؛ ولذا(1) لم يقولوا: ومن الرَّحمن؟ وقول المبرِّد _فيما حكاه ابن الأنباريِّ في «الزَّاهر»_: «الرحمنُ: اسمٌ عبرانيٌّ ليس بعربيٍّ» قولٌ مرغوبٌ عنه، والدَّليل على اشتقاقه ما صحَّحه التِّرمذيُّ من حديث / عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه سمع النَّبيَّ صلعم يقول: «قال الله تعالى: أنا الرَّحمن، خلقتُ الرَّحِمَ وشققتُ لها اسمًا من اسمي...» الحديث، قال القرطبيُّ: وهذا نصٌّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشِّقاق. انتهى. و«الرَّحمن»: «فَعْلان» من «رَحِمَ»، كـ «غضبان» من «غَضِبَ»، و«الرَّحيم»: «فعيلٌ» منه، كـ «مريضٍ» من «مَرِضَ»، والرَّحمة في اللُّغة: رِقَّةٌ في القلب، وانعطافٌ يقتضي التفضُّل والإحسان، ومنه: الرَّحِم لانعطافها على ما فيها، وهو تجوُّزٌ باسم السَّبب عن المسبَّب، ويُستَعمل في حقِّه تعالى تجوُّزًا عن إنعامه، أو عن(2) إرادة الخير لخلقه؛ إذ المعنى الحقيقي‼ يستحيل في حقِّه تعالى، واختُلِف في اللَّفظين، فقيل: هما مترادِفانِ، كندمان ونديمٍ، ورُدَّ بأنَّ إمكان المخالفة يمنع التَّرادف، ثمَّ على الاختلاف قيل: «الرَّحمن» أبلغ؛ لأنَّ زيادة البناء _هو الزِّيادة على الحروف الأصول_ تُفيد الزِّيادة في المعنى؛ كما في قَطَع وقَطَّع، وكُبَار وكُبَّار، وبالاستعمال حيث يقال: رحمٰن الدُّنيا والآخرة، ورحيم الآخرة، وأسند ابن جريرٍ عن العرزميِّ(3) أنَّه قال: الرَّحمن: لجميع الخلق، والرَّحيم: بالمؤمنين، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5] وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43] فخصَّهم باسمه الرَّحيم، فدلَّ على أنَّ «الرَّحمن» أشدُّ مبالغةً في الرَّحمة؛ لعمومها في الدَّارين لجميع خلقه، و«الرَّحيم» خاصٌّ بالمؤمنين، وأجيب بأنَّه ورد في الدُّعاء المأثور(4): «رحمن الدُّنيا والآخرة ورحيمهما» وأورد على ما ذُكِر من زيادة البناء «حَذِر وحَاذِر»، ذكره ابن أبي الرَّبيع وغيره، لكن قال البدر بن(5) الدَّماميني: والنقض بـ «حَذِر وحَاذِر» يندفع بأنَّ هذا الحكم أكثريٌّ لا كلِّيٌّ، وبأنَّ ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء الأنقص زيادة معنًى بسببٍ آخر، كالإلحاق بالأمور الجبلِّيَّة؛ مثل: شَرِه ونَهِم، وبأنَّ ذلك فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متَّحِدَي النَّوع في المعنى، كـ «غَرِث وغَرْثَانَ»(6)، لا كـ «حَذِر وحَاذِر» للاختلاف في المعنى، قال: وهنا فائدةٌ حسنةٌ، وهي أنَّ بعض المتأخِّرين كان يقول: إنَّ صفات الله تعالى التي هي على صيغة(7) المبالغة: كغفَّارٍ ورحيمٍ وغفورٍ كلُّها مجازٌ؛ إذ هي موضوعةٌ للمبالغة، ولا مبالغة فيها؛ لأنَّ المبالغة هي أن يُنسَب للشيء أكثر ممَّا له، وصفات الله تعالى متناهيةٌ في الكمال لا يمكن المبالغة فيها، وأيضًا: فالمبالغة إنَّما تكون في صفاتٍ تقبل الزِّيادة والنَّقص، وصفات الله تعالى منزَّهةٌ عن ذلك. انتهى. وقول بعضهم: إنَّ «الرَّحيم» أشدُّ مبالغةً؛ لأنَّه أُكِّد به، والمؤكِّد يكون أقوى من المؤكَّد، أجيب عنه بأنَّه ليس من باب التَّأكيد، بل من باب النَّعت بعد النَّعت، وقول(8): إنَّ «الرَّحمن» عَلَمٌ بالغلبة؛ لأنَّه جاء غير تابعٍ لموصوفٍ؛ كقوله: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:1- 2] وشِبْهه، تُعقِّب بأنَّه لا يلزم من مجيئه غير تابعٍ ألَّا يكون نعتًا؛ لأنَّ المنعوت إذا عُلِم جاز حذفه وإبقاء نعته، وقال بعضهم: إن أراد القائل أنَّه عُلِم اختصاصُه تعالى به فصحيحٌ، ولا يمنع هذا وقوعه نعتًا، وإن(9) أراد أنَّه جارٍ كالعَلَم لا يُنظر فيه إلى معنى المشتقِّ فممنوعٌ؛ لظهور معنى الوصفيَّة، وعلميَّةُ الغلبة يردُّها أنَّ لفظ «الرَّحمن» لم يستعمل إلَّا له تعالى، فلا تتحقَّق فيه الغلبة، وأمَّا قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمن اليمامة؛ فمِن تعنُّتهم في كفرهم، ولمَّا تسمَّى بذلك كساه الله جلباب الكذب، وشُهِر به، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذَّاب، والأظهر: أنَّ «رحمن» غير مصروفٍ كـ «عطشان» وقال البيضاويُّ: وتخصيص التَّسمية بهذه الأسماء‼ ليعلم العارف أنَّ المستحقَّ لأَنْ يُستعانَ به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقيُّ الذي هو مَوْلَى النِّعم كلِّها، عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجَّه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسَّك بحبل التَّوفيق، ويشغل سرَّه بذكره والاستلذاذ(10) به عن غيره.
          (الرَّحِيمُ(11) وَالرَّاحِمُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالعَلِيمِ وَالعَالِمِ) وهذا بالنَّظر إلى أصل المعنى، وإلَّا فصيغة «فَعِيل» من صِيَغ المبالغة، فمعناها زائدٌ على معنى الفاعل، وقد ترد صيغة «فعيل» بمعنى الصِّفة المشبَّهة، وفيها أيضًا زيادةٌ لدلالتها على الثُّبوت، بخلاف مجرَّد الفاعل فإنَّه يدلُّ على الحدوث، ويحتمل أن يكون المراد أنَّ «فعيلًا» بمعنى: «فاعل» لا بمعنى «مفعول»؛ لأنَّه قد يَرِدُ بمعنى «مفعول» فاحتُرِز عنه.


[1] في (د): «ولهذا».
[2] في (د) و(م): «وعن».
[3] في (د): «الصَّدفي» وهو تحريفٌ.
[4] زيد في غير (د) و(س): «موقوفًا» وليس بصحيحٍ.
[5] «بن»: ليس في (ب) و(م).
[6] في غير (د): «كغوث وغوثان» ولعلَّه تحريفٌ.
[7] في (م): «صفات».
[8] في (د): «وقوله».
[9] في (م): «وإذا».
[10] في (د): «والالتذاذ».
[11] زيد في (م): «الرَّحمن».