إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لما قضى الله الخلق كتب في كتابه

          3194- وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) سقط «ابن سعيدٍ» لأبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرَّحمن(1) (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ) أي: خلقه كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[فصلت:12] أو أوجد جنسه. وقال ابن عرفة: قضاء الشَّيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه (كَتَبَ) أي: أَمَرَ القلم أن يكتب (فِي كِتَابِهِ، فَهْو عِنْدَهُ) أي: فَعِلْمُ ذلك عنده (فَوْقَ العَرْشِ) مكنونًا عن سائر الخلائق(2)، مرفوعًا عن حيِّز الإدراك، ولا تعلُّق لهذا بما يقع في النُّفوس من تصوُّر المكانيَّة _تعالى الله عن صفات المُحدَثات_ فإنَّه المباين عن جميع خلقه، المتسلِّط على كلِّ شيءٍ بقهره وقدرته: (إِنَّ رَحْمَتِي) _بكسر الهمزة_ حكايةً لمضمون الكتاب(3)، وتُفتَح(4) بدلًا من «كتب» (غَلَبَتْ) وفي رواية شُعَيبٍ عن أبي الزِّناد في «التَّوحيد» [خ¦7422]: «سبقت»(5) (غَضَبِي) والمراد من الغضب لازمُه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، لأنَّ السَّبق والغلبة باعتبار التَّعلُّق، أي: تعلُّق الرَّحمة غالبٌ سابقٌ على تعلُّق الغضب، لأنَّ الرَّحمة مقتضى ذاته المُقدَّسة، وأمَّا الغضب فإنَّه متوقِّفٌ على سابقة عملٍ من العبد الحادث. وقال التُّورِبشتيُّ: وفي سبق الرَّحمة بيانُ أنَّ قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وإنَّما(6) تنالهم من غير استحقاق، وأنَّ الغضب لا ينالهم إلَّا باستحقاقٍ(7)، ألا ترى أنَّ الرَّحمة تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير(8) أن يصدر منه شيءٌ من الطَّاعة(9)، ولا يلحقه الغضب إلَّا بعد أن يصدر عنه من المخالفات ما يستحقُّ ذلك. وقال في «المصابيح»: الغضب إرادة العقاب‼، والرَّحمة إرادة الثَّواب، والصِّفات لا تُوصَف بالغلبة، ولا يسبق بعضها بعضًا، لكن جاء هذا على الاستعارة، ولا يمتنع أن تُجعَل الرَّحمة والغضب من صفات الفعل لا الذَّات، فالرَّحمة هي الثَّواب والإحسان، والغضب هو الانتقام(10) والعقاب، فتكون الغلبة على بابها، أي: إنَّ رحمتي أكثر من غضبي، فتأمَّله. وقال الطِّيبيُّ: وهو على(11) وزان قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام:12] أي: أوجب وعدًا أن يرحمهم قطعًا، بخلاف ما يترتَّب عليه مقتضى الغضب(12) والعقاب، فإنَّ الله تعالى كريمٌ يتجاوز(13) بفضله، وأنشد(14):
وإنِّي إذا أوعدْتُه أو وعدْتُهُ                     لَمُخلِفُ إيعادي ومنجِزُ مَوعدي(15)
          وفي هذا الحديث: تقدُّم خلق العرش على القلم الَّذي كتب المقادير، وهو مذهب الجمهور، ويؤيِّده قول أهل اليمن في الحديث السَّابق لرسول الله صلعم [خ¦3191]: «جئنا نسألك عن هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيءٌ غيره، وكان عرشه على الماء» وقد روى الطَّبرانيُّ في صفة اللَّوح من حديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا(16): «إنَّ الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّةٍ بيضاء، صفحاتها من ياقوتةٍ حمراء(17)، قلمه نورٌ، وكتابته نورٌ، لله في كلِّ يومٍ ستُّون وثلاث مئة لحظةٍ، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعزُّ ويذلُّ، ويفعل / ما يشاء(18)» وعند ابن إسحاق عن ابن عبَّاسٍ أيضًا قال: «في صدر اللَّوح المحفوظ لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمَّدٌ عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدَّق بوعده واتَّبع رسله أدخله الجنَّة» قال: «واللَّوح لوحٌ من درَّةٍ بيضاء، طوله ما بين السَّماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافَّتاه الدُّرُّ والياقوت، ودفَّتاه ياقوتةٌ حمراء، وقلمه نورٌ، وأعلاه(19) معقودٌ بالعرش، وأصله في حَجْر مَلَكٍ». وقال أنس بن مالكٍ وغيره من السَّلف: اللَّوح المحفوظ في جبهة إسرافيل. وقال مقاتلٌ: هو عن يمين العرش.
          وحديث الباب أخرجه مسلمٌ في «التَّوبة»، والنَّسائيُّ(20) في «النُّعوت».


[1] زيد في (ب) و(س): «بن هرمز».
[2] في (م): «الخلق».
[3] زيد في (د) و(م): «وهو على وزان قوله» ثمَّ زيد في (د): «تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}»، وسيأتي.
[4] في (م): «وتصحُّ».
[5] في غير (د) و(م): «تغلب» والمثبت موافقٌ لما في «صحيح البخاريِّ».
[6] في (ب) و(س): «وإنَّها».
[7] في (د): «بالاستحقاق».
[8] في (ص) و(ل): «قبل».
[9] في (د): «الطَّاعات».
[10] في (ب): «الانتفاع» ولعلَّه تحريفٌ.
[11] «على»: ليس في (د).
[12] في (د): «العذاب».
[13] زيد في غير (د) و(م): «عنه».
[14] في (م): «وأنشدوا».
[15] قوله: «وقال الطِّيبيُّ: وهو على... إيعادي ومنجِزُ مَوعدي» جاء في (ص) بعد قوله: «يستحقُّ ذلك» السَّابق.
[16] زيد في (م): «أيضًا».
[17] «حمراء»: ليس في (ص) و(م).
[18] في غير (د): «شاء» والمثبت موافقٌ لما في «الطَّبرانيِّ».
[19] في (م): «وكلامه».
[20] في (ب): «النَّساء»، وهو تحريفٌ.