إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أبي هريرة: نحن الآخرون السابقون

          2956- 2957- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابن أبي حمزة (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (أَنَّ الأَعْرَجَ) عبد الرَّحمن بن هرمزٍ (حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: نَحْنُ الآخِرُونَ) في الدُّنيا (السَّابِقُونَ) في الآخرة.
          وهذا طرفٌ من حديثٍ، وقد سبق الكلام فيه في «كتاب الطَّهارة» [خ¦238] و«الجمعة» [خ¦876] ومطابقته لما ترجم له هنا غير بيِّنةٍ، لكن قال ابن المُنَيِّر: إنَّ معنى «يقاتل من ورائه» أي: من أمامه، فأطلق الوراء على الأمام؛ لأنَّهم وإن تقدَّموا في الصُّورة فهم أتباعه في الحقيقة، والنَّبيُّ صلعم تقدَّم غيره عليه بصورة الزَّمان، لكنَّ المتقدِّم عليه مأخوذٌ عهده أن يؤمن به وينصره كآحاد أمَّته، ولذلك ينزل عيسى ابن مريم(1) ◙ مأمومًا، فهم في الصورة أمامه، وفي الحقيقة خلفه، فناسب ذلك قوله: «يقاتل من ورائه» وهذا كما تراه في غايةٍ من التَّكلُّف، والظَّاهر أنَّه إنَّما ذكره جريًا على عادته أن يذكر الشَّيء كما سمعه جملةً(2) لتضمُّنه معنى(3) الدَّلالة المطلوبة منه وإن لم يكن باقيه مقصودًا.
          (وَبِهَذَا الإِسْنَادِ) السَّابق قال صلعم : (مَنْ أَطَاعَنِي) فيما أَمرتُ به(4) (فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) لأنَّه ╕ في الحقيقة مبلِّغٌ، و(5) الآمر هو الله ╡ (وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ) أمير السريَّة أو الأمراء مطلقًا فيما يأمرونه(6) به (فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ(7) الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) قيل: وسبب قوله ╕ ذلك أنَّ قريشًا ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة، ولا يطيعون غير رؤساء قبائلهم، فأعلمهم ╕ أنَّ طاعة الأمراء حقٌّ واجبٌ (وَإِنَّمَا الإِمَامُ) القائم بحقوق الأنام (جُنَّةٌ) بضمِّ الجيم وتشديد النُّون، سترةٌ ووقايةٌ يمنع العدوَّ من أذى المسلمين، ويحمي بيضة الإسلام (يُقَاتَلُ) بضمِّ أوَّله مبنيًّا للمفعول، معه الكفَّار والبغاة (مِنْ وَرَائِهِ) أي: أمامه، فعبَّر بالوراء عنه كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ}[الكهف:79] أي: أمامهم(8)، فالمراد المقاتلة للدَّفع عن الإمام، سواء كان ذلك من خلفه‼ حقيقةً أو قدَّامه، فإن لم يقاتل من ورائه، وأبى(9) عليه مرج أمر النَّاس، وسطا القويُّ على الضَّعيف، وضُيِّعت الحدود والفرائض (وَيُتَّقَى بِهِ) بضمِّ أوَّله(10) مبنيًّا للمفعول، فلا يعتقد من قاتل عنه أنَّه حماه، بل ينبغي أن يعتقد أنَّه احتمى به لأنَّه فئته، وبه / قويت همَّته، وفيه إشارةٌ إلى صحَّة تعدُّد الجهات، وألَّا يُعدَّ من التَّناقض وإن تُوهِّم فيه ذلك؛ لأنَّ كونه جُنَّة يقتضي أن يتقدَّم، وكونه يقاتل من أمامه يقتضي أن يتأخَّر، فجُمِعَ بينهما باعتبارين وجهتين (فَإِنْ أَمَرَ) رعيَّته (بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ) فيهم (فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ) الأمر والعدل (أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ) أي: أمر أو حكم (بِغَيْرِهِ) أي: بغير تقوى الله وعدله (فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ) وزرًا، كذا ثبتت هذه _يعني: «وزرًا»(11)_ في بعض طرق الحديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحُذِفَت هنا لدلالة مقابلِه السَّابق عليه، و«منه»(12) للتَّبعيض، فيكون المراد أنَّ بعض الوزر عليه، أو المراد أنَّ الوبال الحاصل منه عليه لا على المأمور، وحكى صاحب «الفتح»: أنَّه وقع في رواية أبي زيدٍ(13) المروزيِّ: ”فإنَّ(14) عليه مُنَّةً “ بضمِّ الميم وتشديد النُّون، بعدها هاء(15) تأنيثٍ، قال: وهي(16) تصحيفٌ بلا ريبٍ، وبالأولى جزم أبو ذرٍّ.


[1] «ابن مريم»: ليس في (د1) و(ص) و(م).
[2] «جملة»: ليس في (م).
[3] في غير (ص): «موضع».
[4] في (د1) و(م): «أمرته»، و«به»: ليس في (د1) و(ص).
[5] في (د): «إذ».
[6] في (ل): «يأمروه»،.
[7] في (د): «عصى».
[8] قال السندي في «حاشيته»: قوله: (الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ): قال القسطلاني تبعًا لغيره قوله: (من ورائه)؛ أي: أمامه، فعبَّر عن الأمام بالوراء، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} أي: أمامهم. انتهى. قلت: وهذا بعيدٌ لا يناسب السَّابق وهو (جُنَّة) ولا اللَّاحق وهو قوله: (يتَّقى به)، والوجه أنَّ وراء بمعناه، والمقصود يتَّبع أمره ونهيه وتدبيره في القتال، ويمشي تابعًا إيَّاه بحيث كأنَّ الإمام هو قدامه، والله تعالى أعلم.
[9] في (د) و(م): «وأتى».
[10] «بضمِّ أوَّله»: ليس في (د1) و(ص).
[11] «يعني: وزرًا»: مثبتٌ من (م).
[12] في (ب): «من».
[13] في (م): «ذرٍّ» وليس بصحيحٍ.
[14] في (م): «قال» وهو تحريفٌ.
[15] في (د1) و(ص): «تاء» وليس في (م).
[16] في (د): «وهو».