إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم

          212- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ هِشَامٍ) أي: ”ابن عروة“ كما للأَصيليِّ (عَنْ أَبِيهِ) عروة (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ : (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي) جملةٌ اسميَّةٌ في موضع الحال (فَلْيَرْقُدْ) أي: فلينمْ احتياطًا لأنَّه علَّل بأمرٍ محتملٍ، كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_، وللنَّسائيِّ من طريق أيُّوب عن هشامٍ: «فلينصرف» أي: بعد أن يتمَّ صلاته، لا أنَّه يقطع الصَّلاة بمُجرَّد النُّعاس خلافًا للمُهلَّب حيث حمله على ظاهره (حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ) فالنُّعاس سببٌ للنَّوم أو سببٌ للأمر بالنَّوم (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ) أي: يريد أن يستغفر (فَيَسُبَُّ نَفْسَهُ) أي: يدعو عليها، و«الفاء» عاطفةٌ على «يستغفر»، وفي بعض الأصول: ”يسبُّ“ بدونها، جملةٌ حاليَّةٌ، و«يسبَّ»(1) بالنَّصب: جوابًا لـ «لعلَّ»(2)، والرَّفع: عطفًا على «يستغفر»، وجعل ابن أبي جمرة علَّة النَّهيِ خشية أن يوافق ساعة إجابةٍ، والتَّرجِّي في «لعلَّ» عائدٌ إلى المصلِّي لا إلى المتكلِّم به، أي: لا يدري أمستغفرٌ أم سابٌّ مترجِّيًا للاستغفار وهو في الواقع بضدِّ ذلك؟ وغاير بين لفظي النُّعاس فقال في الأوَّل: «نعس» بلفظ الماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيهًا على أنَّه لا يكفي تجدُّد أدنى نعاسٍ وتقضيه في الحال، بل لا بدَّ من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ، فإن قلت: هل بين قوله: «نعس وهو يصلِّي»، و«صلَّى وهو ناعسٌ» فرقٌ؟ أُجيب: الفرق الذي بين «ضرب قائمًا»، و«قام ضاربًا»، وهو احتمال القيام بدون الضَّرب في الأوَّل، واحتمال الضَّرب بدون القيام في الثَّاني، فإن قلت: لِمَ اختار ذلك وهذا هنا؟ أُجيب(3) بأنَّ الحال قيدٌ وفضلةٌ، والقصد(4) في الكلام ما له القيد، ففي الأوَّل: لا شكَّ أنَّ النُّعاس هو علَّة الأمر بالرُّقاد، لا الصَّلاة، فهو المقصود الأصليُّ في التَّركيب، وفي الثَّاني: الصَّلاة علَّة الاستغفار؛ إذ(5) تقدير الكلام: فإنَّ أحدكم إذا صلَّى وهو ناعسٌ يستغفر، والفرق بين التَّركيبين هو الفرق بين «ضرب قائمًا» و«قام ضاربًا»، فإنَّ(6) الأوَّل يحتمل قيامًا بلا ضربٍ، والثَّاني ضربًا بلا قيامٍ، واختُلِف هلِ النَّوم في ذاته حدثٌ أو هو مظنَّة الحدث؟ فنقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصَّحابة والتَّابعين رضي الله عنهم أجمعين _وبه قال إسحاق والحسن والمزنيُّ وغيرهم_: أنَّه في ذاته ينقض الوضوء مطلقًا، وعلى كلِّ حالٍ وهيئةٍ لعموم حديث صفوان بن عسَّالٍ ☺ المرويِّ في «صحيح(7) ابن خزيمة»؛ إذ فيه: «إلَّا من غائطٍ أو بولٍ أو نومٍ» فسوَّى بينهما(8) في الحكم، وقال آخرون بالثَّاني لحديث أبي داود‼ وغيره: «العينان وكاء السَّه، فمن نام فليتوضَّأ» واختلف هؤلاء فمنهم من قال: لا ينقض القليل، وهو قول الزُّهريِّ ومالكٍ وأحمد ⌠ في إحدى الرِّوايتين عنه، ومنهم من قال: ينقض مُطلَقًا إلَّا نوم مُمَكِّنٍ مقعدته من مقرِّه فلا ينقض لحديث أنسٍ ☺ المرويِّ عند(9) «مسلمٍ»: أنَّ الصَّحابة ♥ كانوا ينامون ثمَّ / يصلُّون ولا يتوضَّؤون، وحُمِل على نوم المُمَكِّن جمعًا بين الأحاديث، ولا تمكين لمن نام على قفاه ملصقًا مقعده(10) بمقرِّه، ولا لمن نام محتبيًا وهو هزيلٌ بحيث(11) لا تنطبق أليتاه(12) على مقرِّه، على ما نقله في «الشَّرح الصَّغير» عن الرُّوْيَانيِّ، وقال الأذرعيُّ: إنَّه الحقُّ، لكن نقل في «المجموع» عن الماورديِّ خلافًا، واختار أنَّه متمكِّنٌ، وصحَّحه في «الرَّوضة» و«التَّحقيق» نظرًا إلى أنَّه متمكِّنٌ بحسب قدرته، ولو نام جالسًا فزالت أليتاه(13) أو إحداهما(14) عن الأرض: فإن زالت قبل الانتباه انتقض وضوءه، أو بعده أو معه أو لم يدرِ أيُّهما سبق(15) فلا؛ لأنَّ الأصل بقاء الطَّهارة(16)، وسواءٌ وقع يده أم لا، وهذا مذهب الأستاذ الشَّافعيِّ وأبي حنيفة رحمهما الله ورضي عنهما، وقال مالكٌ رحمه الله ورضي عنه: إن طال نقض، وإلَّا فلا، وقال آخرون: لا ينقض النَّومُ الوضوءَ(17) بحالٍ، وهو مَحكِيٌّ عن أبي موسى الأشعريِّ ☺ وابن عمر ومكحولٍ وغيرهم ♥ ، ويُقاس على النَّوم الغَلَبة على العقل؛ جنونٍ أو إغماءٍ أو سُكْرٍ لأنَّ ذلك أبلغ في الذُّهول من النَّوم الذي هو مظنَّة الحدث على ما لا يخفى.
          ورواة هذا الحديث الخمسة مدنيُّون إلَّا شيخ المؤلِّف، وفيه: التَّحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه مسلمٌ وأبو داود في «الصَّلاة».


[1] في (ص): «يصبُّ»، وهو تحريفٌ.
[2] في (ص): «للكلِّ».
[3] قوله: «الفرق الذي بين ضرب قائمًا... لِمَ اختار ذلك وهذا هنا؟ أُجيب» مثبتٌ من (م).
[4] في (م): «الأصل».
[5] «إذ»: سقط من (د).
[6] في (ص) و(م): «بأنَّ».
[7] في (د) و(ل): «حديث».
[8] في (ب) و(س): «بينها».
[9] في (د) و(ص): «في».
[10] في (س): «مقعدته».
[11] «بحيث»: ليست في (ص).
[12] في (ب) و(س) و(ج): «ألياه».
[13] في غير (د): «ألياه».
[14] في (م): «أحديهما».
[15] في (س): «أسبق».
[16] في (د) و(م): «الطُّهر».
[17] «الوضوء»: سقط من (م).