إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الكفالة في القرض والديون

          ░░39▒▒ ( ╖ باب: الكَفَالَةِ فِي القَرْضِ وَالدُّيُونِ) من عطف العامِّ على الخاصِّ، والكفالة في العُرْف _كما قاله الماورديُّ_ تكون في النُّفوس، والضَّمان في الأموال، والحمالة في الدِّيات، والزَّعامة في الأموال العظام، قال ابن حبَّان في «صحيحه»: والزَّعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل مصر، والكفيل لغة أهل العراق، وهي التزام حقٍّ ثابتٍ في ذمَّة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عينٍ مضمونةٍ (بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا) أي: الكفالة بالأموال، والجارُّ والمجرور يتعلَّق بـ «الكفالة»، وسقطت «البسملة» لأبي ذرٍّ.
          2290- (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزَّاي (بْنِ عَمْرٍو) بفتح العين (الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) حمزة: (أَنَّ عُمَرَ ☺ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا) بتشديد الدَّال المكسورة، أي: آخذًا للصَّدقة عاملًا عليها (فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ) لم يُسَمَّ أحدٌ منهم، وهذا مختصرٌ من قصَّةٍ أخرجها الطَّحاويُّ، ولفظه _كما رأيته في «شرح معاني الآثار» له_: أنَّ عمر بن الخطَّاب بعثه(1) مصدِّقًا على سعد بن هُذَيمٍ، فأُتي حمزة بمالٍ ليصدِّقه، فإذا رجلٌ يقول لامرأته: أدِّي صدقة مال مولاك، وإذا المرأة تقول له: بل أنت فأدِّ صدقة مال ابنك، فسأل حمزةُ عن أمرهما وقولهما، فأُخبِر أنَّ ذلك الرَّجل زوج تلك(2) المرأة، وأنَّه وقع على جاريةٍ لها فولدت ولدًا، فأعتقته المرأة، ثمَّ ورث من أمِّه مالًا(3)، فقالوا: هذا(4) المال لابنه من جاريته، قال حمزة للرَّجل: لأرجمنَّك بأحجارك، فقيل له: إنَّ أمره رُفِع / إلى عمر فجلده مئةً ولم يَرَ عليه رجمًا، قال: (فَأَخَذَ حَمْزَةُ) ☺ (مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلًا) ولأبي ذرٍّ: ”كفلاء“ بالجمع (حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ) ☺ (قَدْ جَلَدَهُ مِئَةَ جَلْدَةٍ) كما سبق، وسقط قوله «جلدةٍ» لأبوي ذرٍّ والوقت (فَصَدَّقَهُمْ) بالتَّشديد في الفرع وغيره من الأصول المعتمدة، أي: صدَّق القائلين بما قالوا (وَ) إنَّما درأ عمر عنه الرَّجم لأنَّه (عَذَرَهُ بِالجَهَالَةِ) وفي بعض الأصول: ”فَصَدَقهم“ بالتَّخفيف، أي: صَدَقَ الرَّجلُ القومَ واعترف بما وقع منه(5)، لكن اعتذر بأنَّه لم يكن عالمًا بحرمة وطء جارية امرأته أو بأنَّها جاريتها؛ لأنَّها التبست واشتبهت بجارية نفسه أو بزوجته، ولعلَّ اجتهاد عمر اقتضى أن يجلد الجاهل بالحرمة، وإلَّا فالواجب الرَّجم، فإذا سقط بالعذر لم يُجلَد، واستُنبِط من هذه القصَّة(6) مشروعيَّة‼ الكفالة بالأبدان، فإنَّ حمزة صحابيٌّ وقد فعله ولم ينكره عليه عمر مع كثرة الصَّحابة حينئذٍ. (وَقَالَ جَرِيرٌ) بفتح الجيم وكسر الرَّاء، ابن عبد الله البجليُّ (وَالأَشْعَثُ) بن قيسٍ الكنديُّ الصَّحابيُّ (لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي المُرْتَدِّينَ) وهذا أيضًا مختصرٌ من قصَّةٍ أخرجها البيهقيُّ بطولها من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مُضَرِّبٍ، قال: صلَّيت الغداة مع عبد الله بن مسعودٍ، فلمَّا سلَّم قام رجلٌ فأخبره أنَّه انتهى إلى مسجد بني(7) حنيفة، فسمع مؤذِّن عبدِ الله ابن النَّوَّاحة يشهد أنَّ مسيلمة رسول الله، فقال عبد الله: عليَّ بابن النَّوَّاحة وأصحابِه، فجِيء بهم، فأَمَرَ قَرَظَةَ بن كعبٍ فضرب عنق ابن النَّوَّاحة، ثمَّ استشار النَّاس في أولئك النَّفر، فأشار عليه عديُّ بن حاتمٍ بقتلهم، فقام جريرٌ والأشعث فقالا: لا(8)، بل (اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ) أي: ضمِّنهم، وكانوا مئةً وسبعين(9) رجلًا كما رواه ابن أبي شيبة (فَتَابُوا، وَكَفَلَهُمْ) ضمنهم (عَشَائِرُهُمْ) قال البيهقيُّ في «المعرفة»: والذي رُوِي عن ابن مسعودٍ وجريرٍ والأشعث في قصَّة أصحاب ابن النَّوَّاحة في استتابتهم، وتكفيلهم عشائرهم كفالةً بالبدن في(10) غير مالٍ، وقال ابن المُنيِّر: أخذ البخاريُّ الكفالة بالأبدان في الدُّيون من الكفالة بالأبدان في الحدود بطريق الأولى، والكفالة بالنَّفس قال بها الجمهور، ولم يختلف من قال بها أنَّ المكفول بحدٍّ أو قصاصٍ إذا غاب أو مات أن لا حدَّ على الكفيل بخلاف الدَّين، والفرق بينهما: أنَّ الكفيل إذا أدَّى المال وجب له على صاحب المال مثله، وفرَّق الشَّافعيَّة والحنفيَّة بين كفالة من عليه عقوبةٌ لآدميٍّ كقصاصٍ وحدِّ قذفٍ، ومن عليه عقوبة لله، فصحَّحوها في الأولى لأنَّها حقٌّ لازمٌ كالمال، ولأنَّ الحضور مستحقٌّ عليه دون الثَّانية؛ لأنَّ حقَّه تعالى مبنيٌّ على الدَّرء، قال الأذرعيُّ: ويشبه أن يكون محلُّ المنع حيث لا يتحتَّم استيفاء العقوبة، فإن تحتَّم وقلنا: لا يسقط بالتَّوبة فيشبه أن يُحكَم بالصِّحَّة. (وَقَالَ حَمَّادٌ) هو ابن أبي سليمان، واسمه: مسلمٌ، الأشعريُّ الكوفيُّ الفقيه أحد مشايخ الإمام أبي حنيفة: (إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) سواءٌ كان المتعلِّق بتلك النَّفس حدًّا أو قصاصًا أو مالًا من دينٍ وغيره، قال في «عيون المذاهب»: وتبطل، _أي: الكفالة_ بموته إلَّا عند مالكٍ وبعض الشَّافعيَّة‼ يلزمه ما عليه، وبموت الكفيل لا الطَّالب(11) بالإجماع. انتهى. والذي رأيته في «شرح مُختصَر الشَّيخ خليلٍ» للشَّيخ بهرام عند قوله: «ولا يسقط بإحضاره»: إن حكم(12) لا إن أثبت(13) موته أو عدمه في غيبته ولو بغير بلده، ورجع به، مرادُه: أن يشير إلى ما وقع من الخلاف والتَّفصيل في هذه المسألة، ونصُّها عند ابن زرقون: ولو مات الغريم سقطت الحمالة بالوجه، وقاله في «المدوَّنة» قال: وهذا إذا مات ببلده قبل أن يلتزم الغريم قبل الأجل(14) أو بعده، وأمَّا إن مات بغير البلد فقال أشهب: لا أبالي مات غائبًا أو في البلد، أي(15): يبرأ الحميل(16)، وهو مذهب المدوَّنة، وقال ابن القاسم: يغرم الحميل إن كان الدَّين حالًّا، قربت غيبته أو بعدت، وإن كان مُؤجَّلًا فمات قبله بمدَّةٍ طويلةٍ لو خرج(17) إليها لجاء قبل الأجل فلا شيء عليه، وإن كان على مسافةٍ لا يمكنه أن يجيء إلَّا بعد مضيِّ الأجل ضمن (وَقَالَ الحَكَمُ) بن عُتيبة: (يَضْمَنُ) أي: ما يقبل ترتُّبه في الذِّمَّة، وهو المال، وهذا وصله الأثرم من طريق شعبة عن حمَّادٍ والحكم.


[1] في (د): «أنَّه بعثه».
[2] في (د): «لتلك».
[3] «ثمَّ ورت من أمِّه مالًا»: ليس في (د1) و(ص) و(م).
[4] في (د) و(د1) و(م): «قالوا فهذا».
[5] في (د): «منهم».
[6] في (د): «القضيَّة».
[7] في (د): «ابن»، والمثبت موافقٌ لما في «السُّنن الكبرى».
[8] «لا»: ليس في (د).
[9] «وسبعين»: سقط من (د).
[10] في (د): «من».
[11] في (د1): «كالطَّالب»، وهو خطأٌ، وزيد في (د): «لا تبطل».
[12] في (م): «يحكم».
[13] في (ص): «ثبت».
[14] زيد في (د1): «أو غيره».
[15] في (د): «أن».
[16] في (ص): «المحيل».
[17] في (د): «طويلة أو يخرج»، وهو تحريفٌ.