إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره

          144- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ) بن أبي إياسٍ (قَالَ: حَدَّثَنا(1) ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمَّد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث، نسبه(2) إلى جدِّ جدِّه لشهرته به (قَالَ: حَدَّثَني) بالإفراد، وفي نسخةٍ بالجمع (الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلمٍ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) من الزِّيادة (اللَّيْثِيِّ) ثمَّ الجُنْدُعيِّ، بضمِّ الجيم وسكون النُّون وضمِّ الدَّال المُهمَلَة، المدنيِّ التَّابعيِّ، المُتوفَّى سنة سبعٍ أو خمسٍ ومئةٍ (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كليبٍ (الأَنْصَارِيِّ) ☺ ، وكان من كبار الصَّحابة، شهد بدرًا، ونزل النَّبيُّ صلعم حين قدم المدينة عليه، وتُوفِّي بالقسطنطينيَّة غازيًا بالرُّوم(3)سنة خمسين، وقِيلَ: بعدها، له في «البخاريِّ» سبعة أحاديث (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إِذَا أَتَى) أي: جاء (أَحَدُكُمُ الغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلُِ القِبْلَةَ) بكسر اللَّام: على النَّهي، وبضمِّها: على النَّفي (وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ) جُزِمَ بحذف الياء على النَّهيِ، أي: لا يجعلها مقابل ظهره، وفي رواية «مسلمٍ»: «ولا يستدبرها ببولٍ أو غائطٍ»، والظَّاهر منه: اختصاص النَّهيِ بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المُواجَهة بالنَّجاسة، وقِيلَ: مثار النَّهيِ كشف العورة، وحينئذٍ فيطَّرد في كلِّ حالةٍ تُكشَف(4) فيها العورة كالوطء مثلًا، وقد نقله ابن شاسٍ من المالكيَّة قولًا في مذهبهم، وكأنَّ قائله تمسَّك بروايةٍ في «المُوطَّأ»: «لا تستقبلوا القبلة بفروجكم» ولكنَّها محمولةٌ على(5) قضاء الحاجة جمعًا بين الرِّوايتين (شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) أي: خذوا في ناحية المشرق، أو في ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة ومن كانت(6) قبلتهم على سمتهم، أمَّا من كانت(7) قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنَّه ينحرف‼ إلى جهة الجنوب أو الشَّمال، ثمَّ إنَّ هذا الحديث يدلُّ على عموم النَّهيِ في الصَّحراء والبنيان، وهو مذهب أبي حنيفة ومجاهدٍ وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثَّوريِّ وأحمد في روايةٍ عنه لتعظيم القبلة، وهو موجودٌ فيهما، فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجودٌ في الصَّحراء كالجبال والأودية، وخصَّ الشَّافعيَّة والمالكيَّة وإسحاق وأحمد في رواية هذا العموم بحديث ابن عمر الآتي [خ¦145] الدَّالِّ على جواز الاستدبار في الأبنية، وجابر عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة الدَّالِّ على جواز الاستقبال فيها، ولولا ذلك كان حديث أبي أيُّوب لا يخصُّ من عمومه بحديث ابن عمر إلَّا جواز الاستدبار فقط، ولا يُقَال: يلحق(8) به الاستقبال قياسًا لأنَّه لا يصحُّ، وقد تمسَّك به قومٌ فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال، وحُكِيَ عن أبي حنيفة وأحمد، وهو قول أبي يوسف، وهل جوازهما(9) في البنيان مع الكراهة أم لا؟ قيل: يُكرَه وفاقًا للمجموع(10)، وجزم به في «التَّهذيب»(11) تبعًا للمتولِّي بالكراهة، واختار في «المجموع» بقاء الكراهة في استقبال بيت المقدس واستدباره، وذهب عروة بن الزُّبير وربيعة الرَّأي وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مُطلَقًا، جاعلين حديث ابن عمر منسوخًا بحديث جابرٍ عند أبي داود والتِّرمذيِّ وأبناء ماجه وخزيمة وحبَّان: «نهانا رسول الله صلعم أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببولٍ، ثمَّ رأيته قبل أن يُقبَض بعامٍ يستقبلها(12)»، وقد ضعَّفوا دعوى النَّسخ بأنَّه لا يُصَار إليه إلَّا عند تَعذُّر الجمع، وحملوا حديث جابرٍ هذا على أنَّه رآه في بناءٍ أو نحوه لأنَّ ذلك هو المعهود من حاله ╕ لمُبَالَغَته في التَّستُّر، ويُستثنَى من القول بالحرمة في الصَّحراء ما لو كان الرِّيح يهبُّ عن(13) يمين القبلة أو(14) شمالها، فإنَّهما لا يحرمان للضَّرورة، قال القفَّال في «فتاويه»: والاعتبار _في الجواز في البنيان، والتَّحريم في الصَّحراء_ بالسَّاتر وعدمه، فحيث كان في الصَّحراء ولم(15) يكن بينه وبينها ساترٌ، أو كان وهو قصيرٌ لا يبلغ ارتفاعه ثلثي ذراعٍ، أو بلغ ذلك وبَعُدَ عنه أكثر من ثلاثة أذرعٍ حَرُمَ، وإلَّا فلا، وفي البنيان يُشتَرط السَّتر كما ذكرنا، وإلَّا فيحرمان إلَّا فيما بُنِيَ لذلك، وهذا التَّفصيل للخراسانيِّين، وصحَّحه في «المجموع»، والله أعلم.


[1] في (ب) و(س): «حدَّثني».
[2] في (ص) و(م): «نُسِب».
[3] في (ص): «غازٍ بالرُّوم»، وفي (م): «غازيًا الرُّوم».
[4] في (ص) و(م): «يكشف».
[5] في (ب) و(س): «حالة».
[6] في (ص): «كان».
[7] «كانت»: سقط من (م).
[8] في (م): «يقال لحق».
[9] في (م): «جوارهما»، وهو تصحيفٌ.
[10] في (م): «للجموع».
[11] في غير (د) و(م): «التَّذنيب»، وهو تحريف.
[12] في (د): «يستقبل».
[13] في غير (ص): «على».
[14] في (م): «و».
[15] في (ص) و(م): «أو لم».