إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن

          1997- 1998- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بالموحَّدة والمعجمة المُشدَّدة البصريُّ، المُلقَّب ببندارٍ قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) بضمِّ الغين المعجمة وفتح المهملة آخره راءٌ محمَّد بن جعفرٍ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج قال: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عِيسَى) الأنصاريَّ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَنِيِّ زيادة: ”ابن أبي ليلى“ وهو ثقةٌ، لكن فيه تشيُّعٌ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (عَنْ عُرْوَةَ) بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ. وَعَنْ سَالِمٍ) هو من رواية الزُّهريِّ عن سالمٍ، فهو موصولٌ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) والد سالمٍ ( ♥ قَالَا) أي: عائشة وابن عمر: (لَمْ يُرَخَّصْ) بضمِّ أوَّله وفتح ثالثه المُشدَّد مبنيًّا للمفعول، ولم يضيفاه إلى الزَّمن النَّبويِّ، فهو موقوفٌ كما جزم به ابن الصَّلاح في نحوه ممَّا لم يُضَف، والمعنى حينئذٍ: لم يُرخِّص من له مقام الفتوى في الجملة، لكن جعله الحاكم أبو عبد الله من المرفوع، قال النَّوويُّ في «شرح المُهذَّب»: وهو القويُّ؛ يعني: من حيث المعنى، وهو ظاهر استعمال كثيرٍ من المحدِّثين وأصحابنا في كتب الفقه، واعتمده الشَّيخان في «صحيحيهما»، وأكثر منه البخاريُّ، وقال التَّاج بن السُّبكيِّ: إنَّه الأظهر، وإليه ذهب الإمام فخر الدِّين، وقال ابن الصَّبَّاغ في «العدَّة»: إنَّه الظَّاهر، والمعنى هنا: لم يرخِّص النَّبيُّ صلعم (فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) وهي الأيَّام الثَّلاثة التي بعد يوم النَّحر (أَنْ يُصَمْنَ) أي: يُصام فيهنَّ، فحذف الجارَّ وأوصل الفعل إلى الضَّمير؛ ولذا بعث النَّبيُّ صلعم من ينادي: «إنَّها أيَّام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله ╡، فلا يصومنَّ أحدٌ» رواه أصحاب «السُّنن»، وروى أبو داود عن عقبة بن عامرٍ مرفوعًا: «يوم عرفة ويوم النَّحر وأيَّام التَّشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيَّام أكلٍ وشربٍ»، وفي حديث عمرو بن العاصي‼ عند أبي داود، وصحَّحه ابن خزيمة والحاكم أنَّه قال لابنه عبد الله في أيَّام التَّشريق: «إنَّها الأيَّام التي نهى رسول الله صلعم عن صومهنَّ وأمر بفطرهنَّ»، وقد قال الطَّحاويُّ بعد أن أخرج أحاديث النَّهي عن ستَّة عشر صحابيًّا: فلمَّا ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلعم النَّهيُ عن صيام أيَّام(1) التَّشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنًى، والحاجُّ مقيمون بها، وفيهم المتمتِّعون والقارنون ولم يستثن منهم متمتِّعًا ولا قارنًا؛ دخل المتمتِّعون والقارنون(2) في ذلك. انتهى.
          وفي النَّهي عن صيام هذه الأيَّام والأمر بالأكل والشُّرب سرٌّ حسنٌ؛ وهو أنَّ الله تعالى لمَّا علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاقِّ السَّفر وتعب الإحرام وجهاد النُّفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنًى يوم النَّحر وثلاثة أيَّامٍ بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم الأضاحي، فهم في ضيافة الله تعالى فيها لطفًا من الله تعالى بهم ورحمةً، وشاركهم أيضًا أهلُ الأمصار في ذلك؛ لأنَّ أهل الأمصار شاركوهم في النَّصَبِ لله تعالى والاجتهاد في عشر ذي(3) الحجَّة بالصَّوم والذِّكر، والاجتهاد في العبادات، وفي التَّقرُّب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي وفي حصول المغفرة، فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الرَّاحة بالأكل والشُّرب، وصار المسلمون كلُّهم في ضيافة الله تعالى في هذه الأيَّام، يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله، ولمَّا كان الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه / نُهُوا عن صيامها (إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ) وفي رواية أبي عَوانة عن عبد الله بن عيسى عند الطَّحاويِّ: إلَّا لمتمتِّعٍ أو محصرٍ، أي: فيجوز له صيامها، وهذا مذهب مالكٍ وهو(4) الرِّواية الثَّانية عن أحمد، واختاره ابن عبْدوسٍ في «تذكرته»، وصحَّحه في «الفائق»، وقدَّمه في «المُحرّر» و«الرِّعاية الكبرى»، وقال ابن مُنَجَّا في «شرحه»: إنَّه المذهب، وهو قول الشَّافعيِّ في(5) القديم لحديث الباب، قال في «الرَّوضة»: وهو الرَّاجح دليلًا والصَّحيح من مذهب الشَّافعيِّ وهو القول الجديد، ومذهب الحنفيَّة: أنَّه يحرم صومها لعموم النَّهي، وهو الرِّواية الأولى عن أحمد، قال الزَّركشيُّ الحنبليُّ: وهي التي ذهب إليها أحمد أخيرًا، قال في «المبهج»: وهي الصَّحيحة. انتهى. وأمَّا قول الحافظ ابن حجرٍ: إنَّ الطَّحاويَّ قال: إنَّ قول ابن عمر وعائشة: لم يُرخَّص... إلى آخره، أخذاه من عموم قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}[البقرة:196] لأنَّ قوله: {فِي الْحَجِّ} يعمُّ ما قبل يوم النَّحر وما بعده فتدخل أيَّام التَّشريق، قال في «الفتح»: وعلى هذا فليس بمرفوعٍ‼، بل هو بطريق الاستنباط عمَّا فَهِمَاه من عموم الآية، وقد ثبت نهيه صلعم عن صوم أيَّام التَّشريق وهو عامٌّ في حقِّ المتمتِّع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن وعموم الحديث المشعر بالنَّهي، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظرٌ لو كان الحديث مرفوعًا، فكيف وفي كونه مرفوعًا نظرٌ؟! فعلى هذا يترجَّح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاريُّ. انتهى. والله أعلم. ففيه نظرٌ لأنَّ قوله _: «لو كان الحديث مرفوعًا فكيف وفي كونه مرفوعًا نظرٌ؟»_ لا معنى له لأنَّه إن كان مراده به(6) حديث النَّهي عن صوم أيَّام التَّشريق المرويَّ في غير ما حديثٍ فهو بلا شكٍّ مرفوعٌ كما صرَّح هو به حيث قال: وقد ثبت نهيه صلعم عن صوم أيَّام التَّشريق، وإن كان مراده به حديث الباب فليس التَّعارض المذكور واقعًا بينه وبين عموم الآية، وكيف يكون ذلك وقد ادَّعى استنباطه منها، فالظَّاهر: أنَّه سهوٌ، ولئن سلَّمنا التَّعارض بين حديث النَّهي والآية؛ فالصَّحيح أنَّه مخصِّصٌ لعمومها، لكنَّا لا نسلِّم أنَّ أيَّام التَّشريق من أيَّام الحجِّ كما لا يخفى، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ وغيره، على أنَّ الطَّحاويَّ لم يجزم بأنَّ ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم الآية، وعبارته: فقولهما ذلك يجوز أن يكونا عنيا بهذه الرُّخصة ما قال الله تعالى في كتابه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فعداها أيَّام التَّشريق من أيَّام الحجِّ، فقالا: رُخِّص للحاجِّ المتمتِّع والمحصر في صوم أيَّام التَّشريق لهذه الآية، ولأنَّ هذه الأيَّام عندهما من أيَّام الحجِّ، وخفي عليهما ما كان من توقيف رسول الله صلعم النَّاس من بعده، على أنَّ هذه الأيَّام ليست بداخلةٍ فيما أباح الله ╡ صومه من ذلك. انتهى. فليُتأمَّل، والعجب من العينيِّ في(7) كونه لم ينبِّه على ذلك ولم يعرِّج عليه كغيره من الشُّرَّاح، مع كثرة تعقُّبه على الحافظ في كثيرٍ من الواضحات، نعم تعقَّبه في قوله: ووقع في رواية يحيى بن سلَّامٍ عن شعبة عند الدَّارقُطنيِّ والطَّحاويِّ بأنَّ لفظ الحديث للدَّارقطنيِّ لا لفظ(8) الطَّحاويِّ.


[1] «أيَّام»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] قوله: «ولم يستثن منهم متمتِّعًا ولا قارنًا؛ دخل المتمتِّعون والقارنون» ليس في (ص).
[3] «ذي»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[4] زيد في (د1) و(ص): «في».
[5] «في»: ليس في (س).
[6] «به»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[7] «في»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[8] في (ص): «للفظ».