إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب

          1871- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريِّ (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحُبَابِ) بضمِّ الحاء المهملة وتخفيف المُوحَّدة الأولى (سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ) بالمهملة المُخفَّفة (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ‼: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) بضمِّ الهمزة؛ أي: أمرني ربِّي بالهجرة إلى قريةٍ (تَأْكُلُ القُرَى) أي: تغلبها وتظهر عليها؛ يعني: أنَّ أهلها تغلب أهل(1) سائر البلاد فتُفتَح منها، يُقال: أكلْنا بني فلانٍ؛ أي: غلبناهم وظهرنا عليهم، فإنَّ الغالب المستولي على الشَّيء كالمفني له إفناءَ الآكل إيَّاه، وفي «مُوطَّأ ابن وهبٍ»: قلت لمالكٍ: ما «تأكلُ القُرى؟» قال: تَفْتَحُ القُرى، وقال ابن المُنيِّر في «الحاشية»: قال السُّهيليُّ: في التَّوراة يقول الله: يا طابة، يا مسكينة، إنِّي سأرفع أجاجيرك(2) على أجاجير القرى، وهو قريبٌ من قوله: «أُمِرت بقريةٍ تأكل القرى» لأنَّها إذا علت عليها علوَّ الغلبة أكلَتْهَا، أو يكون المراد: يأكل فضلُها الفضائلَ؛ أي: يغلب فضلُها الفضائلَ، حتَّى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنِّسبة إليها، فهو المراد بالأكل، وقد جاء في مكَّة: أنَّها أمُّ القرى كما جاء في المدينة: تأكل القرى، لكنَّ المذكور للمدينة أبلغ من المذكور لمكَّة لأنَّ الأمومة لا يُمحَى بوجودها وجود ما هي أمٌّ له، لكن يكون حقُّ الأمِّ أظهر، وأمَّا قوله: «تأكل القرى» فمعناه: أنَّ الفضائل تضمحلُّ في جنب عظيم فضلها، حتَّى تكاد تكون عدمًا، وما تضمحلُّ(3) له الفضائل أفضل وأعظم(4) ممَّا تبقى معه الفضائل. انتهى. وهو ينزع إلى تفضيل المدينة على مكَّة، قال المُهلَّب: لأنَّ المدينة هي التي أدخلت مكَّة وغيرها من القرى في الإسلام، فصار الجميع في صحائف أهلها، وأُجيب بأنَّ أهل المدينة الذين فتحوا مكَّة معظمهم من أهل مكَّة، فالفضل ثابتٌ للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله / [خ¦1881]: «ليس من بلدٍ إلَّا سيطؤه الدَّجَّال إلَّا مكَّة والمدينة» التَّساوي بين فضل مكَّة والمدينة، ومباحث التَّفضيل بين الموضعين مشهورةٌ، وقال الأبيُّ من المالكيَّة: واختار ابن رشدٍ وشيخنا أبو عبد الله _أي: ابن عرفة_ تفضيل مكَّة، واحتجَّ ابن رشدٍ لذلك بأنَّ الله تعالى جعل بها قبلة الصَّلاة وكعبة الحجِّ، وبأنَّه تعالى(5) جعل لها مزيَّةً بتحريم الله تعالى إيَّاها أنَّ الله حرَّم مكَّة ولم يحرِّمها النَّاسُ، وأجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على من صاد بحرمها، ولم يُجمِعوا على وجوبه على من صاد بالمدينة، ومن دخله كان آمنًا، ولم يقل أحدٌ بذلك في المدينة، وكان الذَّنب في حرم مكَّة أغلظ منه في حرم المدينة، فكان ذلك دليلًا على فضلها عليها، قال: ولا حجَّة في الأحاديث المرغِّبة في سكنى المدينة على فضلها عليها، قال: ولا دليل في قوله: «أُمِرت بقريةٍ تأكل القرى» لأنَّه إنَّما أخبر أنَّه أُمِر بالهجرة إلى قريةٍ تُفتَح منها البلاد.
          (يَقُولُونَ) أي: بعض المنافقين للمدينة: (يَثْرِبُ) يسمُّونها باسم واحدٍ من العمالقة نزلها، وقيل: يثرب بن قانئة من ولد إرم بن سام(6) بن نوحٍ، وهو اسمٌ كان لموضع منها‼ سُمِّيت كلُّها به، وكرهه صلعم لأنَّه من التَّثريب الذي هو: التَّوبيخ والملامة، أو من الثَّرْب؛ وهو الفساد، وكلاهما قبيحٌ، وقد كان ╕ يحبُّ الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح ولذا بدَّله بطابة والمدينة، ولذلك قال: يقولون ذلك (وَهْيَ المَدِينَةُ) أي: الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة، والنَّجم للثُّريَّا، فهو اسمها الحقيق بها لأنَّ التَّركيب يدلُّ على التَّفخيم كقول الشَّاعر:
.......................                     همُ القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالدٍ
          أي: هي المستحقَّة لأن تُتَّخَذ دار إقامةٍ، وأمَّا تسميتها في القرآن بيثرب(7) فإنَّما هو حكايةٌ عن المنافقين، وروى أحمد عن البراء بن عازبٍ رفعه: «من سمَّى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة»، وروى عمر بن شبَّة عن أبي أيُّوب: أنَّ رسول الله صلعم نهى أن يُقال للمدينة: يثرب، ولهذا(8) قال عيسى بن دينارٍ من المالكيَّة: من سمَّى المدينة يثرب كُتِبت عليه خطيئةٌ، لكن في «الصَّحيحين» في حديث «الهجرة» [خ¦63/45-5815] «فإذا هي يثرب»، وفي روايةٍ: «لا أراها إلَّا يثرب»، وقد يُجاب: بأنَّه قبل النَّهي.
          (تَنْفِي) المدينة (النَّاسَ) أي: الخبيث الرَّديء منهم في زمنه ╕ ، أو زمن الدَّجَّال (كَمَا يَنْفِي الكِيرُ) بكسر الكاف وسكون التَّحتيَّة، قال في «القاموس»: زِقٌّ ينفخ فيه الحدَّاد، وأمَّا المبنيُّ من الطِّين فكُورٌ (خَبَثَ الحَدِيدِ) بفتح الخاء المعجمة والمُوحَّدة ونصب المُثلَّثة على المفعوليَّة؛ أي: وسخه الذي تُخرِجه النَّار؛ أي: أنَّها لا تترك فيها من في قلبه دغلٌ، بل تميِّزه عن القلوب الصَّادقة وتخرجه كما تميِّز النَّار(9) رديء الحديد من جيِّده، ونُسِب التَّمييز للكير لكونه السَّبب الأكبر في اشتعال النَّار التي وقع التَّمييز بها، وقد خرج من المدينة بعد الوفاة النَّبويَّة معاذٌ وأبو عبيدة وابن مسعودٍ وطائفةٌ، ثمَّ عليٌّ وطلحة والزُّبير وعمَّارٌ وآخرون، وهم من أطيب الخلق، فدلَّ على أنَّ المرادَ بالحديثِ تخصيصُ ناسٍ دون ناسٍ، ووقتٍ دون وقتٍ.
          وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا في «الحجِّ»، وكذا النَّسائيُّ فيه وفي «التَّفسير».


[1] «أهل»: ليس في (ص).
[2] في (م): «أجاريرك»، وهو تحريفٌ.
[3] في غير (ص) و(م): «يضمحلُّ».
[4] في (ب) و(س): «أعظم وأفضل».
[5] في (د): «وأنَّ الله تعالى».
[6] في (د): «سنان»، وهو تحريفٌ.
[7] في (د): «يثرب».
[8] في (ص): «ولذا».
[9] في (م): «يميِّز الحدَّاد».