إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ابسط رداءك

          119- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) زاد في رواية غير(1) أبي ذرٍّ وابن عساكر والأَصيليِّ / : ”أَبُو مُصْعَبٍ“ وهي كنية أحمد، وهو أشهر بها، وسقطت في رواية أبي ذرٍّ والأَصيليِّ، واسم أبي بكرٍ: القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ الزُّهريُّ العوفيُّ، قاضي المدينة وعالمها(2)، صاحب مالكٍ، المُتوفَّى سنة اثنتين وأربعين ومئتين، عن اثنتين وتسعين سنةً (قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ) مفتي المدينة مع إمامها مالك بن أنسٍ، المُتوفَّى سنة اثنتين وثمانين ومئةٍ(3) (عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) بكسر الذَّال المُعجَمَة، وهو محمَّد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئبٍ القرشيِّ المدنيِّ العامريِّ، قال الإمام أحمد: كان ابن أبي ذئبٍ أفضل من مالكٍ إلَّا أنَّ مالكًا أشدُّ تنقيةً للرِّجال منه، المُتوفَّى بالكوفة سنة تسعٍ وخمسين ومئةٍ (عَنْ سَعِيدٍ) أي: ابن أبي سعيدٍ (المَقْبُرِيِّ) بفتح الميم وضمِّ المُوحَّدة، المدنيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ أنَّه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية ابن عساكر: ”قلت لرسول الله صلعم “ (إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا) صفةٌ لقوله: «حديثًا» لأنَّه اسم جنسٍ يتناول القليل والكثير (أَنْسَاهُ) صفةٌ ثانيةٌ لـ «حديثًا»، و«النِّسيان» زوال علمٍ سابقٍ عن الحافظة والمدركة، والسَّهو زواله عن الحافظة فقط، ويُفرَّق بينه وبين الخطأ بأنَّ السَّهو ما يتنبَّه(4) صاحبه بأدنى تنبيهٍ بخلاف الخطأ (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم لأبي هريرة، وفي روايةٍ: ”فقال“: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطْتُهُ) أي: لمَّا قال: ابسط، امتثلت أمره فبسطته، وإلَّا فيلزم منه عطف الخبر على الإنشاء، وهو مُختلَفٌ فيه (قَالَ: فَغَرَفَ) ╕ (بِيَدَيْهِ) من فيض فضل الله، فجعل الحفظ كالشَّيء الذي يُغرَف منه، ورمى به في ردائه، ومثَّل بذلك في عالم الحسِّ (ثُمَّ قَالَ) ╕ لأبي هريرة: (ضُمُّـَهُ) بالهاء، مع ضمِّ الميم تبعًا للضَّاد، وفتحها وهي رواية أبي ذرٍّ(5) لأنَّ الفتح(6) أخفُّ الحركات، وكسرها لأنَّ السَّاكن إذا حُرِّك حُرِّك بالكسر، أو فكُّ الإدغام فيصير: اضممه، و«الهاء» فيه ترجع إلى «الحديث»، كما يدلُّ عليه قوله في غير «الصَّحيح»: فغرف بيده ثمَّ قال: «ضُمَّ...» الحديث، وعند المؤلِّف في بعض طرقه: «لن يبسط أحدكم ثوبه حتَّى أقضي مقالتي هذه ثمَّ يجمعها إلى صدره» [خ¦2350] [خ¦7354] وقد وقع في «جامع التِّرمذيِّ» و«حلية أبي نعيمٍ» التَّصريح بهذه المقالة المُبهَمَة في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلعم : «ما من رجلٍ يسمع كلمةً أو كلمتين أو ثلاثًا أو أربعاً أو خمساً(7) ممَّا فرض الله تعالى عليه فيتعلَّمهن ويعلِّمهن إلَّا دخل الجنَّة»، ووقع في رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ وعَزَاها في الفرع كأصله لأبي ذَرٍّ عنِ الحَمُّويي(8) والمُستملي‼: ”ضُمَّ“ بغير هاءٍ، قال أبو هريرة: (فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ) أي: بعد الضَّمِّ، وفي رواية الأكثر: ”بعدُ“ مقطوعٌ عن الإضافة، مبنيٌّ على الضَّمِّ، وتنكير «شيئًا» بعد النَّفيِ ظاهرُ العموم في عدم النِّسيان منه لكلِّ شيءٍ في الحديث وغيره؛ لأنَّ النَّكرة في سياق النَّفيِ تدلُّ عليه، لكن وقع في رواية ابن عُيَيْنَةَ وغيره عن الزُّهريِّ في الحديث السَّابق: «ما نسيتُ شيئًا سمعته منه» [خ¦7354]، وعند مسلمٍ من رواية يونسَ: «فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدَّثني به» وهو يقتضي تخصيص عدم النِّسيان بالحديث، وأخصُّ منه ما جاء في رواية شعيبٍ حيث قال: «فما نسيت من مقالته(9) تلك شيئًا»، فإنَّه يُفهَم تخصيص عدم النِّسيان بهذه المقالة فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومَنْ وافقه لأنَّ أبا هريرة نبَّه به على كثرة محفوظه من الحديث، فلا يصحُّ حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن يكون وقعت له قضيَّتان، فالتي رواها الزُّهريُّ مختصَّةٌ بتلك المقالة، والتي رواها سعيدٌ المَقبُريُّ عامَّةٌ، هكذا قرَّره في «فتح الباري»، وهذا من المعجزات الظَّاهرات حيث رفع صلعم من أبي هريرة النِّسيان الذي هو من لوازم الإنسان حتَّى قِيلَ: إنَّه مُشتَقٌّ منه، وحصول هذا في بسط الرِّداء الذي ليس للعقل فيه مجالٌ.
          وبه قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ) بالذَّال المُعجَمَة، وسبق في أوَّل «كتاب العلم» [خ¦119] (قَالَ: حَدَّثَنَا(10) ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) بضمِّ الفاء وفتح الدَّال المُهمَلَة، وهو أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل بن أبي فُدَيْكٍ، واسم «أبي فديكٍ»: دينار، المدنيُّ اللَّيثيُّ، المُتوفَّى سنة مئتين، وابن أبي فديكٍ يرويه عن ابن أبي ذئبٍ، كما عند المؤلِّف في «علامات النُّبوَّة» [خ¦3648] (بِهَذَا) أي: بهذا الحديث (أَوْ قَالَ) وفي رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”وقال“: (غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ) بالإفراد مع زيادة ”فيه“ / والضَّمير لـ «الثَّوب»، وللمُستملي وحده: ”يحذف(11) بيده(12) فيه“ بالحاء المُهمَلة والذَّال المُعجَمَة والفاء مِنَ الحذف؛ وهو الرَّميُ، لكن حديث «علامات النُّبوَّة» المُنبَّه عليه فيما سبق ليس فيه إلَّا «الغَرْفُ»، وبه استوضح الحافظ ابن حجرٍ على أنَّ ”يَحذف“ تصحيفٌ، مع ما استشهد به ممَّا في «طبقات ابن سعدٍ» عن ابن أبي فديكٍ حيث قال: «فغرف»، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ ما قاله لا يكون دليلًا لِمَا ادَّعاه من التَّصحيف، ولو كان كذلك لنبَّه عليه صاحب «المطالع»، وأُجيِب: بأنَّه لا يلزم من كون صاحب «المطالع» لم ينبِّه عليه ألَّا يكون تصحيفًا. انتهى. لكن يبقى طلب الدَّليل على كونه تصحيفًا، فافهم، وهذا المذكور من قوله: «حدَّثنا إبراهيم بن المنذر...» إلى آخر قوله: «فغرف، أو يحذف بيده فيه» ساقطٌ في رواية أبي ذَرٍّ والأَصيليِّ والمُستملي وابن عساكر.


[1] في (ص): «عن»، وليس بصحيحٍ.
[2] في (ص) و(م): «عاملها».
[3] قوله: «المُتوفَّى سنة اثنتين وثمانين ومئةٍ» سقط من (م).
[4] في (ب) و(س): «ينتبه».
[5] «وهي رواية أبي ذرٍّ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[6] «لأنَّ الفتح»: سقط من (ص) و(م).
[7] قوله: «أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا» مثبت من نسخة (ج) وهي ثابتة في «الفتح» و«حلية الأولياء».
[8] في (م): «وللحَمُّويي».
[9] في (د): «مقالتي».
[10] في (ب) و(س): «أخبرنا».
[11] في (ص): «بحذف»، وهو تصحيف.
[12] «بيده»: مثبت من (م).