إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: عقلت من النبي مجة مجها في وجهي

          77- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، وللأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ وابن عساكر: ”حدَّثنا“ (مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هو البيكنديُّ، كما جزم به(1) البيهقيُّ وغيره، وقِيلَ: هو الفريابيُّ، ورُدَّ: بأنَّه لا رواية له عن أبي مُسْهرٍ الآتي (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ) بضمِّ الميم وسكون السِّين المُهمَلَة وكسر الهاء وآخره راءٌ، عبد الأعلى بن مُسْهرٍ الغسَّانيُّ الدِّمشقيُّ، المُتوفَّى ببغداد(2) سنة ثمانِ عشْرةَ ومئتين، وقد لقيه المؤلِّفُ وسمع منه شيئًا يسيرًا، لكنَّه حدَّث عنه هنا بواسطةٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولابن عساكر وأبي الوقت: ”حدَّثنا“ (مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) بفتح الحاء وسكون الرَّاء المُهمَلَتين آخره مُوحَّدةٌ، الخولانيُّ الحمصيُّ، المُتوفَّى سنة أربعٍ وسبعين ومئةٍ، وقد شارك أبا مُسْهِرٍ في رواية هذا الحديث عن محمَّد بن حربٍ هذا محمَّدُ بن المُصفَّى، كما عند النَّسائيِّ وابن جوصا عن سلمة بن الخليل وأبي(3) التَّقيِّ، كلاهما عن محمَّد بن حربٍ، كما في «المدخل» للبيهقيِّ، فقد رواه ثلاثةٌ غير أبي مُسْهِرٍ عن ابن حربٍ، فاندفع دعوى تفرُّد أبي مُسْهِرٍ به عنه، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (الزُّبَيْدِيُّ) بضمِّ الزَّاي وفتح المُوحَّدة، أبو الهذيل محمَّد بن الوليد بن عامرٍ الشَّاميُّ الحمصيُّ، المُتوفَّى بالشَّام سنة سبعٍ أو ثمانٍ وأربعين ومئةٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ) بفتح الرَّاء وكسر المُوحَّدة، ابن سراقة الأنصاريِّ الخزرجيِّ المدنيِّ، المُتوفَّى ببيت المقدس سنة تسعٍ وتسعين، عن ثلاثٍ وتسعين سنةً أنَّه (قَالَ: عَقَلْتُ) بفتح القاف من «باب ضرَب يضرِب» أي: عرفت أو حفظت (مِنَ النَّبِيِّ صلعم مَجَّةً) بالنَّصب على المفعوليَّة (مَجَّهَا) مِنْ فِيْهِ، أي: رمى بها حال كونها (فِي وَجْهِي، وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ) جملة من المُبتدَأ والخبر وقعت حالًا؛ إمَّا من الضَّمير المرفوع في «عقلت» / ، أو من الياء في «وجهي» (مِنْ) ماءِ (دَلْوٍ) كان من بئرهم التي في دارهم، وكان فعله ╕ لذلك على جهة المُدَاعبَة، أو التَّبريك عليه كما كان صلعم يفعل مع أولاد الصَّحابة، ثمَّ نقله(4) لذلك الفعل المُنزَّل منزلة السَّماع، وكونه سنَّةً مقصودةً دليلٌ لأن يُقال لابن خمسٍ: سمع، وقد تعقَّب ابنُ أبي صُفْرَة المؤلِّفَ في كونه لم يذكر في هذه التَّرجمة حديث ابن الزُّبير في رؤيته إيَّاه يوم الخندق يختلف إلى بني قريظة، ففيه السَّماع منه، وكان سنُّه حينئذٍ ثلاث سنين أو أربعًا، فهو أصغر من محمودٍ، وليس في قصَّة محمودٍ ضبطُه لسماع شيءٍ، فكان ذكر حديث ابن الزُّبير أَوْلَى بهذين المعنيين، وأجاب ابن المُنَيِّر _كما قاله في «فتح الباري» و«مصابيح الجامع»_: بأنَّ المؤلِّف إنَّما أراد نقل السُّنن النَّبويَّة، لا الأحوال الوجوديَّة، ومحمودٌ نقل سنَّةً مقصودةً(5) في كون النَّبيِّ صلعم مجَّ مجَّةً في وجهه، بل في مُجرَّد رؤيته إيَّاه فائدةٌ شرعيَّةٌ ثبت بها كونه صحابيًّا، وأمَّا قصَّة ابن الزُّبير فليس فيها نقل سنَّةٍ من السُّنن النَّبويَّة حتَّى تدخل في هذا الباب، ولا يُقَال _كما قاله الزَّركشيُّ_: إنَّ قضية(6) ابن الزُّبير تحتاج إلى ثبوت صحَّتها على شرط البخاريِّ، أي: حتَّى يتوجَّه الإيراد، بأنَّه قد أخرجها في «مناقب الزُّبير» [خ¦3720] من كتابه هذا، فنفيُ الورود(7) حينئذٍ لا يخفى ما فيه.
          وفي هذا الحديث من الفقه: جوازُ إحضار الصِّبيان مجالسَ الحديث، واستُدِلَّ به أيضًا على أنَّ تعيينَ وقت السَّماع خمسُ سنين، وعزاه عياضٌ في «الإلماع» لأهل الصَّنعة، وقال ابن الصَّبَّاغ: وعليه قدِ استقرَّ عمل أهل الحديث المتأخِّرين، فيكتبون لابن خمسٍ فصاعدًا: «سمع»، ولمن لم يَبْلُغْها: «حضر» أو «أُحْضِر»، وحكى القاضي عياضٌ أنَّ محمودًا حين عقل المجَّة كان ابنَ أربعٍ، ومن ثمَّ صحَّح الأكثرون سماع مَنْ بلغ أربعًا، لكن بالنِّسبة لابن العربيِّ خاصَّةً، أمَّا ابن العجميِّ فإذا بلغ سبعًا، قال في «فتح الباري»: وليس في الحديث ما يدلُّ على تسميع مَنْ عُمُرُه خمس سنين، بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فَهِمَ الخطاب سُمِّعَ وإن كان دون خمسٍ، وإلَّا فلا.


[1] في (ص): «أخرجه».
[2] «ببغداد»: سقط من (ص).
[3] في الأصول: «ابن»، والتصحيح من «الفتح» وكتب الرجال.
[4] في (ص): «نقل».
[5] قوله: «دليلٌ لأن يُقال لابن خمسٍ... الوجوديَّة، ومحمودٌ نقل سنَّةً مقصودةً» سقط من (ص).
[6] في (ب) و(س): «قصَّة».
[7] في (ص): «المورد».