إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: صلى النبي إحدى صلاتي العشي ركعتين

          1229- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) بن الحارث بن سَخْبرة الحوضيُّ قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ) التستريُّ (عَنْ مُحَمَّدٍ) هو ابن سيرين (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلعم إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ) بفتح العين وكسر الشِّين وتشديد الياء: الظُّهر أو العصر (قَالَ مُحَمَّدٌ) أي: ابن سيرين، بالإسناد المذكور (وَأَكْثَرُ) بالمثلَّثة أو الموحَّدة (ظَنِّي العَصْرَ رَكْعَتَيْنِ) بنصب «العصرَ» على المفعوليَّة‼، ولأبي ذَرٍّ: «العصرُ» بالرَّفع، وفي حديث عمران: الجزم بأنَّها العصر، وفي رواية يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة عند مسلمٍ: الجزم بأنَّها الظُّهر، وكذا عند البخاريِّ [خ¦715] في لفظٍ من رواية سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة، وقد أجاب النَّوويُّ عن هذا الاختلاف بما حكاه عن المحقِّقين: أنَّهما قضيَّتان، لكن قال في «شرح تقريب الأسانيد»: والصَّواب: أنَّ قصَّة أبي هريرة واحدةٌ، وأنَّ(1) الشَّكَّ من أبي هريرة، ويوضِّح ذلك ما رواه النَّسائيُّ من رواية ابن عون(2)، عن محمَّد بن سيرين قال: قال أبو هريرة: صلَّى النَّبيُّ صلعم إحدى صلاتي العشيِّ(3)، قال أبو هريرة: ولكني نسيت، قال: فصلَّى بنا ركعتين...، فبيَّن أبو هريرة في روايته هذه _وإسنادها صحيحٌ_ أنَّ الشَّكَّ منه، وإذا كان كذلك، فلا يقال: هما واقعتان، وأمَّا قول ابن سيرين السَّابق: «وأكثر ظنِّي» فهو شكٌّ آخَرُ من ابن سيرين، وذلك أنَّ أبا هريرة حدَّثه بها معيَّنة كما عيَّنها لغيره، ويدلُّ على أنَّه عيَّنها له قول البخاريِّ [خ¦482] في بعض طرقه: قال ابن سيرين: سمَّاها أبو هريرة، ولكنِّي نسيت أنا (ثُمَّ سَلَّمَ) في حديث عمران بن حُصينٍ المرويِّ في «مسلمٍ»: أنَّه سلَّم في ثلاثِ ركعاتٍ، وليس باختلافٍ، بل هما قضيَّتان، كما حكاه النَّوويُّ في «الخلاصة» عن المحقِّقين (ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ) بتشديد الدَّال المفتوحة، أي: في جهة القبلة، وفي رواية ابن عونٍ [خ¦482]: فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ، أي: موضوعةٍ بالعرض (فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا) أي: على الخشبة (وَفِيهِمْ) أي: المصلِّين معه(4) (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ☻ ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ) أي: غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه، وفي رواية ابن عونٍ [خ¦482]: فهاباه، بزيادة الضَّمير (وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ) رفعٌ على الفاعليَّة، وبالمهملات المفتوحات، أي: الَّذين يسارعون إلى الشَّيء(5)، ويقدمون عليه بسرعة، وفي «القاموس»: «وسَرَعَان النَّاس» محرَّكةً: أوائلهم المستبقون إلى الأمر، ويُسكَّن، وقال عياضٌ: ضبطه الأَصيليُّ في «البخاريِّ»: ”سُرْعان النَّاس(6)“ بضمِّ السِّين وإسكان الرَّاء، ووجَّهه: أنَّه جمع سريع، كقفيزٍ وقُفْزانٍ، وكثيبٍ وكثبانٍ (فَقَالُوا: أَقَـُصُـِرَتِ الصَّلَاةُ؟) بهمزة الاستفهام وضمِّ القاف(7) مبنيًّا للمفعول، وفتحِها على صيغة المعلوم، وفي رواية ابن عونٍ: بحذف همزة الاستفهام (وَرَجُلٌ) هناك (يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلعم : ذُو اليَدَيْنِ) وللأربعة: ”ذا اليدين“ بالنَّصب، أي: يسمِّيه: ذا اليدين (فَقَالَ) للنَّبيِّ صلعم لمَّا غلب عليه من الحرص على تعلُّم العلم: (أَنَسِيتَ أَمْ) بالميم، ولأبي الوقت(8): ”أو“ (قَصُرَتْ؟) أي: الصَّلاة، بفتح القاف وضمِّ الصَّاد، وإنَّما سكت العُمَران ولم يسألاه لكونهما هاباه _كما مرَّ_ مع علمهما أنَّه سيبيِّن أَمْرَ ما وقع، ولعلَّه كان بعد النَّهي عن السُّؤال، ولم ينفرد ذو اليدين بالسُّؤال، فعند أبي داود والنَّسائيِّ بإسنادٍ صحيحٍ‼ من حديث معاوية بن حُديجٍ(9): أنَّه سأله(10) عن ذلك طلحة بن عبيد الله، ولكنَّه ذكر(11) أنَّه كان بقيت من الصَّلاة ركعةٌ، ويجوز أن تكون العصر، فيوافق حديث عمران بن حُصينٍ، فيكون قد سأله طلحةُ مع الخِرباق أيضًا (فَقَالَ) ╕ : (لَمْ أَنْسَ) في اعتقادي، لا في(12) نفس الأمر (وَلَمْ تُقْصَرْ) بضمِّ أوَّله وفتح ثالثه، ولأبي ذَرٍّ: ”ولم تَقصُر“ بفتح أوَّله وضمِّ ثالثه، وهذا صريحٌ في نفي النِّسيان، وفي(13) نفي القصر، وهو يفسِّر المراد بقوله في رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلمٍ: «كلُّ ذلك لم يكن»، وهو أشمل مِن لو قيل: لم يكن كلُّ ذلك؛ لأنَّه من باب تقوِّي الحكم، فيفيد التَّأكيد في المسند والمسند إليه، بخلاف الثَّاني؛ إذ ليس فيه تأكيدٌ أصلًا، فيصحُّ أن يقال: لم يكن كلُّ ذلك، بل كان بعضه، ولا يصحُّ أن يُقال: كلُّ ذلك لم يكن بل كان(14) بعضه، كما تقرَّر في البيان(15)، وهذا القول / من رسول الله صلعم ردٌّ على ذي اليدين في موضع استعمال(16) الهمزة و«أَمْ»، وليس بجوابٍ لأنَّ السُّؤال بالهمزة و«أَمْ» عن تعيين أحد المستويين، وجوابه: تعيين أحدهما، يعني: كلُّ ذلك لم يكن، فكيف تسأل بالهمزة و«أم»؟ ولذلك بيَّن السَّائل بقوله في رواية أبي سفيان: «قد كان بعض ذلك»، وفي(17) هذه الرِّواية: (قَالَ: بَلَى، قَدْ نَسِيتَ) لأنَّه لمَّا نفى الأمرين، وكان مقرَّرًا عند الصَّحابيِّ أنَّ السَّهو غير جائزٍ عليه في الأمور البلاغيَّة جزم بوقوع النِّسيان لا القصر، وفائدة جواز السَّهو في مثل هذا بيانُ الحكم الشَّرعيِّ إذا وقع مثله لغيره (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) بانيًا على ما سبق بعد أن تذكَّر أنَّه لم يتمَّها، كما رواه أبو داود في بعض طرقه، قال: ولم يسجد سجدتي السَّهو حتَّى يقَّنه(18) الله ذلك، فلم يقلِّدهم في ذلك، إذ(19) لم يطل الفصل (ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ) للسَّهو (مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ) منه (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ) من السُّجود (فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ) منه (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ) من السُّجود (وَكَبَّرَ) وظاهره: الاكتفاء بتكبيرة السُّجود، ولا يشترط تكبيرة الإحرام، وهو قول الجمهور، وحكى القرطبيُّ: أنَّ قول مالكٍ لم يختلف في وجوب السَّلام بعد(20) سجدتي السَّهو، قال: وما يُتحلَّل منه بسلامٍ لا بدَّ له من تكبيرة الإحرام، ويؤيِّده ما رواه أبو داود من طريق حمَّاد بن زيدٍ، عن هشام بن حسَّان، عن ابن سيرين في هذا الحديث قال: فكبَّر، ثمَّ كبَّر وسجد للسَّهو، وقال أبو داود: ولم يقل أحدٌ: «فكبَّر، ثمَّ كبَّر» إلَّا حمَّاد بن زيدٍ، فأشار إلى شذوذ هذه الزِّيادة. انتهى. وقد اشتمل حديث الباب على فوائد كثيرةٍ، واستدلَّ به من قال من أصحاب الشَّافعيِّ ومالك أيضًا: إنَّ الأفعال الكثيرة في الصَّلاة الَّتي ليست من جنسها إذا وقعت على وجه السَّهو لا تبطلها؛ لأنَّه خرج سَرَعان النَّاس، وفي بعض طرق الصَّحيح: أنَّه ╕ خرج إلى منزله ثمَّ رجع، وفي بعضها: أتى جِذْعًا في قبلة المسجد، واستند إليه، وشبَّك بين أصابعه، ثمَّ رجع ورجع النَّاس وبنى بهم، وهذه أفعالٌ كثيرةٌ، لكن للقائل بأنَّ الكثير يُبطل، أن يقول: هذه غير كثيرةٍ، كما قاله ابن الصَّلاح(21)، وحكاه القرطبيُّ‼ عن أصحاب مالكٍ، والرُّجوع في الكثرة والقلَّة إلى العُرْف على الصَّحيح، والمذهب الَّذي قطع به جمهور أصحاب الشَّافعيِّ أنَّ النَّاسي في ذلك كالعامد، فيبطلها الفعل الكثير ساهيًا.
          ورواة الحديث كلُّهم بصريُّون، وفيه التَّحديث، والعنعنة.


[1] «وأنَّ»: ليس في (د).
[2] في (د): «عوف»، وهو تحريفٌ، وكذا في المواضع اللَّاحقة.
[3] في (د): «العشاء»، وليس بصحيحٍ.
[4] «أي المصلين معه»: سقط من (ص) و(م).
[5] في (م): «المشي».
[6] «الناس»: ليس في (ص).
[7] في غير (د): «الصَّاد»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ص): «ذَرٍّ»، وليس بصحيحٍ.
[9] في (ب): «خديج»، وهو تصحيفٌ.
[10] في (م): «سأل»، وليس بصحيحٍ.
[11] زيد في في (د) و(س): «فيه».
[12] «في»: ليس في (م).
[13] «في»: ليس في (ص) و(م).
[14] «كان»: مثبتٌ من (د).
[15] «في البيان»: ليس في (ص).
[16] في (ب) و(س): «استعماله».
[17] زيد في (ب) و(س): «بعض».
[18] في (د): «لقَّنه».
[19] في غير (د) و(س): «إذا».
[20] في (ص): «بين»، وليس بصحيحٍ.
[21] هكذا في الأصول، وهو موافق لما في «المواهب اللدنية»، والذي في «طرح التثريب»: «ابن الصباغ».