إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: خمس صلوات في اليوم والليلة

          46- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أُويسٍ الأصبحيُّ المدنيُّ، المُتوفَّى سنة ستٍّ وعشرين ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد، وللأَصيليِّ: ”حدَّثنا“ (مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) الإمام، وسقط عند الأَصيليِّ وابن عساكر قوله «ابن أنسٍ» (عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ) واسمُ أبي سُهيلٍ: نافعٌ المدني (عَنْ أَبِيهِ) مالك بن أبي عامرٍ (أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ) بن عثمان القرشيَّ التَّيميَّ، أحد العشرة المُبشَّرة بالجنَّة، المقتول يومَ الجمل لعشرٍ خَلَوْنَ من جمادى الأولى سنة ستٍّ وثلاثين، ودُفِنَ بالبصرة، وله في «البخاريِّ» أربعةُ أحاديثَ (يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ) هو ضِمام بن ثعلبة أو غيره (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ) بفتح النُّون وسكون الجيم، وهو _كما في «العباب» وغيره_ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق، وفي رواية أبي ذَرٍّ: ”جاء رجلٌ من أهل نجدٍ إلى رسول الله صلعم “ (ثَائِرُ) بالمُثلَّثة، أي: متفرِّق شعر (الرَّأْسِ) من عدم الرَّفاهيَة، فحُذِف المضافُ للقرينة العقليَّة، أو أُطلِقَ اسم الرَّأس على الشَّعر لأنَّه نبت منه، كما يُطلَق اسم السَّماء على المطر، أو مبالغةً بجعل الرَّأس كأنَّها المُنْتَفشة، و«ثائرُ»: بالرَّفع صفةٌ لـ «رجل»، أو بالنَّصب على الحال، ولا يضرُّ إضافتها لأنَّها لفظيَّةٌ (نسْمَعُ) بنون الجمع (دَوِيَّ صَوْتِهِ) _بفتح الدَّال وكسر الواو وتشديد الياء_ منصوبٌ مفعولًا به (وَلَا نفْقَهُ) بنون الجمع كذلك (مَا يَقُولُ) أي: الذي يقوله، في محلِّ نصبٍ على المفعوليَّة، وفي رواية ابن عساكر: ”يُسمَع“ ”ولا يُفقَه“ بضمِّ المُثنَّاة التَّحتيَّة فيهما مبنيًّا لِمَا لم يُسمَّ فاعله، و«دويُّ» و«ما يقول» نائبان عنه، والدَّويُّ: شدَّة الصَّوت وبُعْدُه في الهواء، فلا يُفهَمُ منه شيءٌ (حَتَّى دَنَا) أي: إلى أن قَرُبَ فهمناه (فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ) أي: عن أركانه وشرائعه بعد التَّوحيد والتَّصديق، أو عن حقيقته، واستُبعِد هذا؛ من حيث إنَّ الجواب يكون غير مطابقٍ للسُّؤال، وهو قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ): هو (خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) أو خذ خمسَ صلواتٍ، ويجوز الجرُّ بدلًا من «الإسلام»، فظهر أنَّ السُّؤال وقع عن أركان الإسلام وشرائعه، ووقع الجواب مطابقًا له، ويؤيِّده ما في رواية إسماعيل بن جعفرٍ عند المؤلِّف في «الصِّيام» [خ¦1891] أنَّه قال: أخبرني ماذا(1) فرض الله عليَّ من الصَّلاة؟ وليست(2) الصَّلوات الخمس عين الإسلام، ففيه حذفٌ تقديره: إقامةُ خَمسِ صلواتٍ في اليوم واللَّيلة، وإنَّما لم يذكر له الشَّهادة لأنَّه عَلِم أنَّه يعلمها، أو عَلِم أنَّه إنَّما يسأل عن الشَّرائع الفعليَّة، أو ذكرها فلم ينقلها الرَّاوي لشهرتها (فَقَالَ) الرَّجل المذكور، ولابن عساكر: ”قال“: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟) بالرَّفع مبتدأٌ مُؤخَّرٌ، خبره «عليَّ» (قَالَ) صلعم : (لَا) شيءَ عليك غيرُها، وهو حجَّةٌ على الحنفيَّة حيث أوجبوا الوترَ، وعلى الإصطخريِّ من الشَّافعيَّة حيث قال: إنَّ صلاة العيدين فرضُ كفاية (إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ) استثناءٌ من قوله: «لا» منقطعٌ، أي: لكنَّ التطوَّعَ مُستحَبٌّ لك، وعلى هذا لا تلزم النَّوافل بالشُّروع فيها، لكن يُستحَبُّ إتمامها ولا يجب، وقد روى النَّسائيُّ وغيره: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان أحيانًا ينوي صَوم التَّطوُّع ثمَّ يفطر، وفي «البخاريِّ»: «أنَّه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه» [خ¦1986] فدلَّ على أنَّ الشُّروع في النَّفل لا يستلزم الإتمام، فهذا النَّصُّ في الصَّوم، والباقي(3) بالقياس، ولا يرد الحجُّ؛ لأنَّه امتاز عن غيره بالمضيِّ في فاسده، فكيف في صحيحه؟ أو الاستثناء متَّصلٌ على الأصل، واستُدلَّ به على أنَّ الشُّروع في التَّطوُّع يلزم إتمامه، وقرَّره القرطبيُّ من المالكيَّة: بأنَّه نفيُ وجوب شيءٍ آخرَ، أي: إلَّا ما تُطوَّع به، والاستثناء من النَّفيِ إثباتٌ / ، ولا قائلَ بوجوب التَّطوُّع، فتعيَّن أن يكون المُرَاد: إلَّا أن تَشرع في تَطوُّعٍ، فيلزمك إتمامه، وفي «مُسنَد أحمد» من حديث عائشة ♦ قالت: أصبحت أنا وحفصةُ صائمتين، فأُهدِيتْ لنا شاةٌ فأكلْنا، فدخل علينا النبي صلعم ، فأخبرناه، فقال: «صُوما يومًا مكانه» والأمر للوجوب، فدلَّ على أنَّ الشُّروع مُلزِمٌ (قَالَ): وفي رواية أبي الوقت والأَصيليِّ: ”فقال“ (رَسُولُ اللهِ صلعم : وَصِيَامُ) بالرَّفع(4) عطفًا على «خمس صلوات»، وفي رواية أبي ذَرٍّ: ”وصوم“ (رَمَضَانَ. قَالَ) الرَّجل: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ) صلعم : (لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ) فلا يلزمك إتمامه إذا شرعت فيه، أو إلَّا إذا تطوَّعت فالتَّطوُّع يلزمك إتمامه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33] وفي استدلال الحنفيَّة نظرٌ، لأنَّهم لا يقولون بفرضيَّة الإتمام، بل بوجوبه واستثناء الواجب من الفرض منقطعٌ لتباينهما، وأيضًا فإنَّ الاستثناء عندهم من النَّفيِ ليس للإثبات، بل مسكوتٌ عنه كما قاله في «الفتح» (قَالَ) الرَّاوي طلحةُ بن عبيد الله: (وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم الزَّكَاةَ، قَالَ) وفي رواية الأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ: ”فقال“ الرَّجل المذكور: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ) صلعم : (لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ، قَالَ) الراوي: (فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ) من الإدبار، أي: تَوَلَّى (وَهُوَ يَقُولُ) أي: والحالُ أنَّه يقول: (وَاللهِ لَا أَزِيدُ) في التَّصديق والقَبول (عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ) منه شيئًا، أي: قبلت كلامك قبولًا لا مَزِيدَ عليه من جهة السُّؤال، ولا نقصانَ فيه من طريق القبول، أو لا أَزِيدُ على ما سَمعتُ، ولا أنقصُ منه عند الإبلاغ؛ لأنَّه كان وافدَ قومه ليتعلَّم ويُعلِّمهم، لكن يُعكِّر عليهما رواية إسماعيل بن جعفر حيث قال: لا أتطوَّع شيئًا، ولا أنقص ممَّا فرض الله عليَّ شيئًا [خ¦1891] أو المُرَاد: لا أغيِّر صفة الفرض؛ كمن ينقص الظُّهر مثلًا ركعةً، أو يزيدُ المغربَ (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : أَفْلَحَ) الرَّجل، أي: فاز (إِنْ صَدَقَ) في كلامه، واستُشكِل كَونه أثبت له الفلاح بمُجرَّد ما ذكر، وهو لم يذكر له جميع الواجبات ولا المنهيَّات ولا المندوبات، وأُجِيب: بأنَّه داخلٌ في عموم قوله في حديث إسماعيل بن جعفرٍ المرويِّ عند المؤلِّف في «الصِّيام» [خ¦1891] بلفظ: فأخبره رسول الله صلعم بشرائع الإسلام، فإن قلت: أمَّا فلاحه بأنَّه لا ينقص فواضحٌ، وأمَّا بألَّا يزيد فكيف يصحُّ؟ أجاب النَّوويُّ: بأنَّه أثبتَ له الفلاحَ لأنَّه أتى بما عليه، وليس فيه أنَّه إذا أتى بزائدٍ على ذلك لا يكون مفلحًا؛ لأنَّه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أَوْلى.
          وفي هذا الحديث: أنَّ السَّفر والارتحال لتعلُّم العلم مشروعٌ، وجواز الحلف من غير استحلافٍ ولا ضرورةٍ، ورجاله كلُّهم مدنيُّون، وتسلسلٌ بالأقارب؛ لأنَّ إسماعيل يرويه(5) عن خاله عن عمِّه عن أبيه، وأخرجه أيضًا في «الصَّوم» [خ¦1891] وفي «ترك الحيل» [خ¦6956]، وأخرجه مسلمٌ في «الإيمان»، وأبو داودَ في «الصَّلاة»، والنَّسائيُّ فيها وفي «الصَّوم».


[1] في (ل): «عن ماذا».
[2] في غير (م): «وليس».
[3] في (م): «والثاني».
[4] «بالرَّفع»: ليس في (ل) و(م).
[5] في (م): «يروي».