إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن رجلًا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه

          1013- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هو ابن سلامٍ البيكنديُّ (قَالَ: أَخْبَرَنَا) وللأَصيليِّ: ”حدَّثنا“ (أَبُو ضَمْرَةَ) بفتح(1) الضَّاد المعجمة وسكون الميم (أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ) بكسر العين المهملة(2)، اللَّيثيُّ المدنيُّ، المتوفَّى سنة مئتين (قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) بفتح النُّون وكسر الميم، المدنيُّ: (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) ☺ (يَذْكُرُ: أَنَّ رَجُلًا) قيل: هو كعب بن مرَّة وقيل: هو(3) أبو سفيان بن حربٍ، وضُعِّفَ الثَّاني بما سيأتي (دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ) من المسجد النَّبويِّ بالمدينة (كَانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ) بكسر الواو، وللأَصيليِّ وأبي الوقت: ”وُجَاهَ(4)“ بضمِّها، أي: مواجهه ومقابله (وَرَسُولُ اللهِ صلعم قَائِمٌ) حال كونه (يَخْطُبُ) والجملة السَّابقة حاليَّةٌ أيضًا (فَاسْتَقْبَلَ) الرَّجلُ (رَسُولَ اللهِ صلعم ) حال كونه (قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) فيه دلالةٌ على أنَّ السَّائل كان مسلمًا، فامتنع أن يكون أبا سفيان لأنَّه حين سؤاله لذلك لم يكن أسلم، كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_ في حديث ابن مسعودٍ قريبًا (هَلَكَتِ المَوَاشِي) من عدم ما يعيشون(5) به من الأقوات المفقودة بحبس المطر، كذا في رواية أبي ذرٍّ وكريمة عن الكُشْمِيْهَنِيِّ(6): «المواشي»، ولغيرهما: ”هلكت الأموال“ وهي في الفرع(7) لأبي ذَرٍّ أيضًا عنه، والمراد بالأموال المواشي أيضًا لا الصَّامت، والمال عند العرب هي الإبل، كما أنَّ المال(8) عند أهل التِّجارة الذَّهب والفضَّة، ولابن عساكر: ”قال أبو عبد الله: هلكت، يعني الأموال“ وأبو عبد الله هو البخاريُّ (وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) بضمِّ السِّين والموحَّدة، أي: الطُّرق، فلم تسلكها الإبل لهلاكها أو ضعفها بسبب قلَّة الكلأ، أو بإمساك الأقوات فلم تجلب، أو بعدمها فلم يوجد ما يحمل عليها، وللأَصيليِّ: ”وتقطَّعت“(9) بالمثنَّاة الفوقيَّة وتشديد الطَّاء من باب التَّفعُّل، والأولى مِن باب الانفعال (فَادْعُ اللهَ) فهو (يُغِيثَنَا) أو الرَّفع على أنَّ الأصل: فادعُ الله أن يغيثنا، فحُذِفَت «أَنْ» فارتفع الفعل، وهل ذلك مقيسٌ؟ فيه خلافٌ، ولأبي ذَرٍّ: ”أن(10) يغيثَنا“ وضبطها البرماويُّ وغيره بالجزم جوابًا للطَّلب، وهو الأَوجه، لكن الَّذي رويناه هنا هو الرَّفع والنَّصب كما مرَّ، نعم هي(11) في رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ الآتية _إن شاء الله تعالى_ في الباب التَّالي بالجزم، وأمَّا أوَّل الفعل هنا فمضمومٌ في جميع الفروع والأصول(12) الَّتي وقفتُ‼ عليها، مِن باب: أغَاثَ يُغِيثُ إِغَاثةً من مزيد الثُّلاثيِّ المجرَّد(13): من الغَوث، وهو الإجابة، أو هو من طلب الغيث، أي: المطر، لكنَّ المشهور عند اللُّغوييِّن فتحُها، من الثُّلاثيِّ المجرَّد في المطر، يقال: غَاث الله النَّاس والأرض يَغيثهم، بالفتح، قال ابن القطَّاع: غاث الله عباده غيثًا وغياثًا: سقاهم(14) المطر، وأغاثهم: أجاب دعاءهم، ويقال: غَاث وأغاث بمعنًى، والرُّباعيُّ أعلى، وقال بعضهم _فيما نقله أبو عبد الله الأُبِّيُّ_: على(15) تقدير أنَّه من الإغاثة لا من طلب الغيث، إنَّه من ذلك بالتَّعدية، يعني: اللَّهم هب لنا غيثًا، كما يقال: سقاه الله وأسقاه، أي: حصل له(16) سقياه(17) على من فرَّق بين اللَّفظين، وضبطها البرماويُّ بالوجهين مقدِّمًا للفتح، وكذا جوَّزهما في «الفتح»، لكن يبقى النَّظر في الرِّواية. نعم، ثبت الوجهان في الرِّواية اللَّاحقة في فرع «اليونينيَّة» (قَالَ) أنس: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدَيْهِ) أي: حذاء وجهه، ودعا (فَقَالَ) في دعائه: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا) ثلاث مرَّاتٍ لأنَّه كان إذا دعا دعا ثلاثًا، وهمزة: «اسقنا»، فيها وصلٌ كما في الفرع، وجوَّز الزَّركشيُّ قطعَها معلِّلًا بأنَّه ورد في القرآن ثلاثيًّا ورباعيًّا، قال في «المصابيح»: إن ثبتت الرِّواية بهما(18)، أي: بالوصل والقطع / فلا كلامَ، وإلَّا اقتصرنا من الجائزَين على ما وردت الرِّواية به. انتهى. (قَالَ أَنَسٌ: وَلَا) بالواو، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر: ”فلا“ (وَاللهِ) أي: فلا نرى والله (مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ) أي: مجتمعٍ، وحَذَفَ: نرى بعد «فلا» لدلالة قوله: «ما نرى» عليه، وكرَّر النَّفي للتَّأكيد (وَلَا قَزَعَةً) بفتح القاف والزَّاي والعين المهملة، ثمَّ هاء تأنيثٍ مفتوحًا على التَّبعيَّة لقوله: «من سحابٍ» محلًّا، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”ولا قَزَعَةٍ“ مكسورًا كسر إعرابٍ على التَّبعيَّة له لفظًا، وهي قطعةٌ من سحابٍ رقيقةٍ كأنَّها(19) ظلٌّ، إذا مرَّت من تحت السَّحاب الكثير، وخصَّه أبو عبيد بما يكون في الخريف (وَلَا) نرى (شَيْئًا) من ريح وغيره مما يدلُّ على المطر (وَمَا) ولأبي ذر: ”ولا“ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ) بفتح السين وسكون اللام كَفَلْسٍ جبل بالمدينة (مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ) تحجبنا(20) عن رؤيته (قَالَ: فَطَلَعَتْ) أي: ظهرت (مِنْ وَرَائِهِ) من وراء سلعٍ (سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ) في الاستدارة لا في القَدْر، زاد(21) في رواية حفص بن عبيد الله عند أبي عَوانة: «فنشأت سحابةٌ مثلُ رِجل الطَّائر وأنا أنظر إليها» وهو يدلُّ على صغرها (فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ) السَّحابة (السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ) بعد استمرارها مستديرةً (ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ) أي: أنسٌ، ولابن عساكر: ”فقال“ بزيادة الفاء: (وَاللهِ) بالواو، ولأبوي‼ ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ: ”فوالله“ (مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا) بكسر السِّين وتشديد المثنَّاة الفوقيَّة، أي: ستَّة أيَّامٍ، كذا في رواية الحَمُّويي والمُستملي، ورواه سعيدُ بن منصورٍ عن الدَّراورديِّ، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكر عن الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”سبتًا“ بفتح السِّين وسكون الموحِّدة، أي: أسبوعًا، وعبَّر به لأنَّه أوَّله، من باب تسمية الشَّيء باسم بعضه، ولا تنافيَ بين الرِّوايتين لأنَّ مَن قال: سبعًا(22) بالموحَّدة، أضاف إلى السِّتَّة يومًا مُلفقًا من الجمعَتين، ويأتي مزيدٌ لذلك(23) _إن شاء الله تعالى_ قريبًا (ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ) غير الأوَّل لأنَّ النَّكرة إذا تكرَّرت دلَّت على التَّعدُّد، أو هذه القاعدة محمولةٌ على الغالب لما سيأتي إن شاء الله تعالى عند قول(24) أنسٍ آخِرَ الحديث: «لا أدري»، وفي رواية إسحاق عن أنسٍ: فقام ذلك الرَّجل أو غيره، بالشَّكِّ، ولأبي عَوانة من طريق حفصٍ عن أنسٍ: «فما زلنا نُمطَر حتَّى جاء ذلك الأعرابيُّ» (مِنْ ذَلِكَ البَابِ) الَّذي دخل منه السَّائل أوَّلًا (فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللهِ صلعم قَائِمٌ) حال كونه (يَخْطُبُ) ولأبي ذَرٍّ: ”قائمًا“ بالنَّصب على الحال من فاعل «يخطب» وهو الضَّمير المستكنّ فيه (فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا) نصبٌ على الحال من الضَّمير المرفوع في: «استقبله» لا من المنصوب (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ) أي: المواشي بسبب كثرة المياه؛ لأنَّه انقطع المرعى، فهلكت المواشي من عدم الرَّعي(25) (وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) لتعذُّر سلوكها من كثرة المطر (فَادْعُ اللهَ) بالفاء، ولأبي ذّرٍّ والأَصيليِّ: ”ادع الله“ (يُمْسِكْهَا) بالجزم جوابًا للطَّلب، ولأبي ذَرٍّ و(26)ابن عساكر عن الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”أَنْ يمسكها“ بزيادة: «أَنْ»، ويجوز الرَّفع، أي: هو يُمْسِكُها، والضَّمير للأمطار أو السَّحابة (قَالَ) أنسٌ: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا) بفتح اللَّام، أي: أنزل المطر حوالينا (وَلَا) تنزله (عَلَيْنَا) والمراد صرفه عن الأبنية، وفي الواو من قوله: «ولا علينا» بحثٌ يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى، ثمَّ بيَّن المراد بقوله: «حوالينا» فقال: (اللَّهُمَّ عَلَى الإكَامِ) بكسر الهمزة على وزن: الجِبَال، وبهمزةٍ مفتوحةٍ ممدودةٍ، جمع أَكَمَةٍ بفتحَاتٍ: التُّراب المجتمع، أو أكبر من الكُدْية، أو الهضبة الضَّخمة، أو الجبل الصَّغير، أو ما ارتفع من الأرض (وَالجِبَالِ) زاد في غير(27) رواية أبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ وابن عساكر: ”والآجام“ بالمدِّ والجيم(28) (وَالظِّرَابِ) بكسر الظَّاء(29) المعجمة آخره موحَّدةٌ، جمع ظَرِبَ(30) ككَتِفٍ بكسر(31) الرَّاء: جبلٌ منبسطٌ على الأرض، أو الرَّوابي الصَّغار دون الجبل، أي: أنزل المطر حيث لا نستضرُّ به(32). قال البرماويُّ والزَّركشيُّ: وخُصَّت بالذِّكر لأنَّها أوفق للزِّراعة من رؤوس الجبال. انتهى. وتعقَّبه في «المصابيح» بأنَّ الجبال مذكورةٌ في لفظ الحديث‼ هنا، فما هذه الخصوصيَّة بالذِّكر؟ ولعلَّه يريد الحديث الَّذي في التَّرجمة الآتية، فإنَّه لم يذكر فيها الجبال (وَالأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ / الشَّجَرِ) أي: المرعى، لا في الطّرق المسلوكة، فلم يَدْعُ ╕ برفعه(33) لأنَّه رحمةٌ، بل دعا بكشف ما يضرُّهم، وتصييره إلى حيث يبقى نفعه وخصبه، ولا يستضرُّ به ساكنٌ ولا ابن سبيلٍ، وهذا من أدبه الكريم وخلقه العظيم، فينبغي التَّأدُّب بمثْل أدبه. واستُنبطَ من هذا أنَّ مَن أنعم الله عليه(34) بنعمةٍ لا ينبغي له أن يتسَّخطها(35) لعارضٍ يعرض فيها، بل يسأل الله تعالى رفعَ ذلك العارض وإبقاءَ النِّعمة. (قَالَ) أنسٌ: (فَانْقَطَعَتْ) أي: الأمطار عن المدينة (وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، قَالَ شَرِيكٌ) الرَّاوي (فَسَأَلْتُ) وللأَصيليِّ: ”فسألنا“ (أَنَسًا: أَهُوَ) أي: السَّائل الثَّاني (الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي) عبَّر أنسٌ أوَّلًا بقوله: إنَّ رجلًا دخل المسجد، وعبَّر ثانيًا بقوله(36): ثمَّ دخل رجلٌ(37)، فأتى بـ «رجلٍ» نكرةً في الموضعَين مع تجويزه(38) أن يكون الثَّاني هو الأوَّل، ففيه أنَّ النَّكرة إذا أعيدت نكرةً لا يجزم بأنَّ مدلولها ثانيًا غير مدلولها أوَّلًا، بل الأمر محتملٌ، والمسألة مقرَّرةٌ في محلِّها، قاله في «المصابيح»، فإنَّ قلت: لِمَ لَمْ يباشر سؤالَهُ ╕ الاستسقاءَ بعضُ أكابر أصحابه؟ أُجيبَ بأنَّهم كانوا يسلكون الأدب بالتَّسليم وتركِ الابتداء بالسُّؤال، ومنه قول أنسٍ: كان يعجبنا أن يجيء الرَّجل من البادية فيسأل. واستنبط منه أبو عبد الله الأُبِّيُّ: أنَّ الصَّبر على المشاقِّ وعدم التَّسبُّب في(39) كشفها أرجحُ لأنَّهم إنَّما يفعلون الأفضل. وفي هذا الحديث: التَّحديث والإخبار والسَّماع والقول، وشيخ المؤلِّف من أفراده، وهو من الرُّباعيَّات، وأخرجه أيضًا في «الاستسقاء» [خ¦1014]، وكذا مسلمٌ وأبو داود والنَّسائيُّ.


[1] في غير (د): «بضمِّ»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[2] قوله: «بكسر العين المهملة» سقط من (د) و(ص) و(م).
[3] «هو»: مثبتٌ من (ص).
[4] «وُجاه»: سقط من (ص).
[5] في (ب) و(س): «تعيش».
[6] في (د): «المستلمي»، وليس بصحيحٍ.
[7] في (ص): «اليونينيَّة»، وكلاهما صحيحٌ.
[8] في (د): «الأموال».
[9] في (م): «فتقطَّعت».
[10] «أَنْ»: ليس في (د).
[11] في (ب) و(د) و(س): «وَقَع».
[12] في (ص): «في الفرع وجميع الأصول».
[13] «المجرَّد»: ليس في (ص) و(م).
[14] زيد في (د): «الله».
[15] «على»: ليس في (د).
[16] «له»: ليس في (م).
[17] في (د): «أي: جعل سقياه».
[18] في (د): «فيهما».
[19] في (د): «لأنَّها».
[20] في (ب) و(س): «يحجبنا».
[21] في (م): «إذ».
[22] في (ب) وحده «سبتًا».
[23] في (د): «ويأتي في ذلك مزيدٌ».
[24] «قول»: ليس في (د).
[25] في (د): «المرعى».
[26] «و»: ليس في (د).
[27] «غير»: سقط من (م).
[28] في (د): «الميم».
[29] «الظَّاء»: ليس في (ب) و(د) و(م).
[30] قال في «التُّحفة»: بكسر الظَّاء المعجَمة المشَالَة، ووَهِمَ مَن قال: بكسر الضَّاد المعجَمة السَّاقطة.
[31] في (م): «بسكون»، وكلاهما صحيحٌ.
[32] في (د): «حيث لا أبنية».
[33] في (د): «يرفعه».
[34] «عليه»: سقط من (د).
[35] في (د): «يسخطها».
[36] «بقوله»: ليس في (د).
[37] عبارة المصابيح: «ثم دخل رجل من ذلك الباب».
[38] في (م): «تجويز». وكذا في «المصابيح».
[39] في غير (د) و(س): «على».