إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب: وأبيض يستسقى

          1008- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) بإسكان الميم، ابن بحر الباهليُّ البصريُّ الصَّيرفيُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ) بضمِّ القاف وفتح التَّاء(1) الفوقيَّة، سَلْم، بفتح السِّين وسكون اللَّام، الخراسانيُّ البصريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ) عبد الله (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☻ (يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ) أي: ينشده، زاد ابن عساكر: ”فقال“ (وَأَبْيَضَ) أعربه ابن هشامٍ في «مغنيه»: مجرورًا بالفتحة بـ «رُبَّ» مضمرةً، وتعقَّبه البدر الدَّمامينيُّ في «حاشيته» عليه، و«مصابيحه» فقال في آخرهما: وليس كذلك، وفي أوَّلهما: والظَّاهر أنَّه منصوبٌ عطفًا على «سيِّدًا» المنصوب في البيت قبله، وهو قوله:
وما ترك قومٌ لا أبا لك سيِّدًا                     يحوطُ الذِّمار غير ذَرْبٍ مُواكِلِ(2)
قال: وهو من عطف الصِّفات الَّتي موصوفها واحدٌ، ويجوز الرَّفع، وهو في «اليونينيَّة» أيضًا، خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أبيض (يُسْتَسْقَى الغَمَامُ) بضمِّ المثنَّاة التَّحتيِّة وفتح القاف مبنيًّا للمفعول، أي: يستسقي النَّاس الغمام (بِوَجْهِهِ) الكريم (ثِمَالَُِ اليَتَامَى) أي: يكفيهم بإفضاله، أو يطعمهم عند الشِّدَّة، أو عمادُهم، أو ملجؤُهم، أو مغيثُهم، وهو بكسر المثلَّثة والنَّصب أو الرَّفع، صفةٌ لـ «أبيض» كقوله: (عِصْمَةًٌٍ) أي: مانعٌ (لِلأَرَامِلِ) يمنعهم ممَّا يضرُّهم، وفي(3) «اليونينيَّة»: «ثمالِ» و«عصمةِ» بالجرِّ فيهما مع الوجهين الآخرين صفةٌ لـ «أبيضَ» على تقدير جرِّه بـ «رُبَّ»، وفيه ما مرَّ. و«الأرامل»: جمع أرملة، وهي الفقيرة الَّتي لا زوج لها، والأرمل(4): الرَّجل الَّذي لا زوج له، قال:
هذي الأرامل قد قَضَّيْتَ حاجتَها                     فمَن لحاجةِ هذا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ؟!
نعم، استعماله في الرَّجل مجازٌ؛ لأنَّه لو أوصى للأرامل خُصَّ النِّساءُ دون الرِّجال، واستُشكل إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة؛ إذ ليس فيه أن أحدًا سأله أن يستسقي لهم، وأجاب ابن رُشَيدٍ باحتمال أن يكون أراد بالتَّرجمة الاستدلالَ بطريق‼ الأَولى؛ لأنَّهم إذا كانوا يسألون الله به(5) فيسقيهم فأحرى أن يقدِّموه للسُّؤال. انتهى. قال في «الفتح»: وهو حسنٌ.
          1009- (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) بضمِّ العين وفتح الميم في الأوَّل، وبالحاء المهملة والزَّاي في الثَّاني، ابن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب، ممَّا وصله أحمد وابن ماجه، قال: (حَدَّثَنَا) عمِّي (سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر قال: (رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ) جملةٌ حاليَّةٌ (إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صلعم ) حال كونه (يَسْتَسْقِي) زاد ابن ماجه: «على المنبر» (فَمَا يَنْزِلُ) عنه (حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ) بفتح المثنَّاة التَّحتيَّة وكسر الجيم مِنْ يجيشُ، وآخره شينٌ معجمةٌ، من جاشَ يجيش إذا هاج، وهو كنايةٌ عن كثرة المطر. والميزاب: ما يسيل منه الماء من موضعٍ عالٍ، ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ، عن الحَمُّويي والكُشْمِيْهَنِيِّ: ”لك ميزابٌ“ بتقديم اللَّام على الكاف، قال الحافظ ابن حجرٍ: وهو تصحيفٌ.
(وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ                     ثِمَالَُِ اليَتَامَى عِصْمَةًٌٍ لِلأَرَامِلِ
وَهْوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ).
          ومطابقة هذا التَّعليق للتَّرجمة(6) من قوله: «يستسقي»، ولم يكن استسقاؤه ╕ إلَّا عن سؤالٍ(7)، والظَّاهر أنَّ طريق ابن عمر الأُولى مختصرةٌ من هذه المعلَّقةِ المصرِّحةِ بمباشرته ╕ للاستسقاء بنفسه الشَّريفة، وأَصْرَحُ من ذلك رواية(8) البيهقيِّ في «دلائله»، عن أنسٍ قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلعم ، فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا بعيرٌ يَئِطُّ، ولا صبيٌّ يَغطُّ، فقام ╕ يجرُّ رداءه، حتَّى صعد المنبر، فقال: «اللَّهم اسقنا...» الحديثَ، وفيه: ثمَّ قال ╕ : «لو كان أبو طالبٍ حيًّا لقرَّت عيناه(9)، مَن يُنْشِدنا قوله؟» فقام عليٌّ فقال: يا رسول الله، كأنَّك أردت قوله: /
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ                     ثِمَالَُِ اليَتَامَى عِصْمَةًٌٍ لِلأَرَامِلِ
واقتصر ابن عساكر في روايته على قوله: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه»، وأسقط باقيه اكتفاءً بالسَّابق، وقدَّم قوله: «وهو قول أبي طالبٍ» على قوله: «وأبيض»، بعد قوله: «كلُّ ميزابٍ»، وسقط قوله: «وهو» عند أبوي ذَرٍّ والوقت، وهذا البيت من قصيدةٍ جليلةٍ بليغةٍ من بحر الطَّويل، وعدَّة أبياتها مئةُ بيتٍ وعشرة أبياتٍ، قالها لمَّا تمالأ قريشٌ على النَّبيِّ صلعم ، ونفروا عنه من يريد الإسلام، فإن قلت: كيف قال أبو طالب: يستسقى الغمام بوجهه؟ ولم يره قطُّ استسقى، وإنَّما كان بعد الهجرة؟ فالجواب أنَّه أشار إلى ما أخرج(10) ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكَّة وهم في قحطٍ فقالت قريشٌ: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فَهلُمَّ فاستسقِ(11)، فخرج أبو طالبٍ معه غلامٌ، يعني: النَّبيَّ صلعم ، كأنَّه شمسُ دُجْنٍ تجلَّت عن(12) سحابةٍ قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالبٍ، فألصق‼ ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام، وما في السَّماء قزعةٌ، فأقبل السَّحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب(13) النَّادي والبادي، وفي ذلك يقول، أي: أبو طالبٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ                     .......................
فإن قلت: قد تُكلِّم في عمر بن حمزة، وفي عبد الرَّحمن بن عبد الله بن دينار السَّابق في الطَّريق الموصولة، فكيف احتجَّ المؤلِّف بهما؟ أُجيبَ بأنَّ إحدى الطَّريقين(14) عضدت الأخرى، وهذا أحد قسمي الصَّحيح كما تقرَّر في علوم الحديث.


[1] في (ص): «المثنَّاة».
[2] قوله: «يحوط الذِّمار غير ذرب مواكل»، سقط من (ب).
[3] زيد في غير (ص): «غير»، وليس بصحيحٍ.
[4] في (د) و(م): «أرمل».
[5] في (ص): «بهم».
[6] في (م): «أخرجه».
[7] في (د): «سؤاله».
[8] في (م): «رواه».
[9] في (ب): «عينه».
[10] في (ب) و(د) و(س): «أخرجه».
[11] في (م): «فاستقِ».
[12] في (د) و(م): «عنه».
[13] زيد في (د): «له».
[14] في (ص) و(م): «الطَّريقتين». والمثبت موافق للعمدة.