إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة

          946- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ) بالفتح غير منصرفٍ، ابن عُبَيْد بن مخراق الضُّبَعيُّ البصريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) _تصغير جارية_ ابن أسماء، وهو(1) عمُّ عبد الله الرَّاوي عنه (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☻ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ) غزوة الخندق سنة أربعٍ إلى المدينة، ووضع المسلمون السِّلاح، وقال له جبريل ╕ : ما وضعت الملائكة السِّلاح بعد، وإنَّ الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإنِّي عائدٌ إليهم، فقال ╕ لأصحابه‼: (لَا يُصَلِّيَنَّ) بنون التَّوكيد الثَّقيلة (أَحَدٌ) منكم (العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) بضمِّ القاف وفتح الرَّاء والظَّاء المعجمة، فرقةٌ من اليهود (فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ) بنصب «بعضَهم» ورفع تاليه، مفعولٌ وفاعلٌ، مثل قوله: «وإن يدركْني يومُك» [خ¦3] والضَّمير في «بعضَهم» لـ «أحدٌ». (فَقَالَ) وللأربعة: ”وقال“ (بَعْضُهُمْ) الضَّمير فيه _كالآتي_ لنفس بعض الأوَّل: (لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا) عملًا بظاهر قوله: «لا يصلِّينَّ أحدٌ» لأنَّ النُّزول معصيةٌ للأمر الخاصِّ بالإسراع، فخصُّوا عموم الأمر بالصَّلاة أوَّل وقتها بما إذا لم يكن عذرٌ بدليل أمرهم بذلك. (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي) نظرًا إلى المعنى لا إلى ظاهر اللَّفظ (لَمْ يُرَِدْ مِنَّا ذَلِكَ) ببناء «يُرَد» للمفعول، كما ضبطه العينيُّ والبرماويُّ، وبالبناء للفاعل كما ضبطه في «المصابيح»، والخفضة مكشوطةٌ في الفرع، فعريت الرَّاء فيه عن الضَّبط، ولم يضبطها في «اليونينيَّة»(2)، والمعنى: أنَّ المرادَ من قوله: «لا يصلِّينَّ أحدٌ» لازمُه، وهو الاستعجال في الذَّهاب لبني قريظة، لا حقيقة ترك الصَّلاة، كأنَّه قال: صلُّوا في بني قريظة إلَّا أن يدرككم وقتها قبل أن تَصِلُوا إليها، فجمعوا بين دليلي وجوب الصَّلاة ووجوب الإسراع، فصلَّوا ركبانًا لأنَّهم لو نزلوا للصَّلاة لكان فيه مضادَّةٌ للأمر بالإسراع، وصلاة الرَّاكب مقتضيةٌ للإيماء، فطابق الحديث التَّرجمة، لكن عُورِض بأنَّهم لو تركوا الرُّكوع والسُّجود لخالفوا قوله تعالى: { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77] وأُجيب بأنَّه عامٌّ خُصَّ بدليلٍ، كما أنَّ الأمر بتأخير الصَّلاة إلى إتيان بني قريظة خُصَّ بما إذا لم يخش الفوات. والقول بأنَّهم صلَّوا ركبانًا، لابن المُنَيِّر، قال في «الفتح»: وفيه نظرٌ لأنَّه لم يصرِّح لهم بترك النُّزول، فلعلَّهم فهموا أنَّ المراد بأمرهم: «ألَّا يصلُّوا العصر إلَّا في بني قريظة» المبالغةُ في الأمر بالإسراع، فبادروا إلى امتثال أمره، وخصُّوا وقت الصَّلاة من ذلك لِما تقرَّر عندهم من تأكيد أمرها، فلا يمتنِع أن ينزِلوا فيصلُّوا، ولا يكونَ في ذلك مضادَّةٌ لِما أُمِروا به، ودعوى أنَّهم صلَّوا ركبانًا يحتاج إلى دليلٍ، ولم أره صريحًا في شيءٍ من طرق هذه القصَّة(3). (فَذُكِرَ(4) لِلنَّبِيِّ صلعم ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا) ولأبوي ذَرٍّ والوقت / عن الحَمُّويي والكُشْمِيْهَنِيِّ والمُستملي: ”أحدًا“ (مِنْهُمْ) لا التَّاركين لأوَّل الوقت عملًا بظاهر النَّهي، ولا الَّذين فهموا أنَّه كنايةٌ عن العجلة، قال النَّوويُّ ☼ : لا احتجاج به على إصابة كلِّ مجتهدٍ لأنَّه لم يصرِّح بإصابتهما، بل ترك التَّعنيف، ولا خلاف أنَّ المجتهد لا يُعنَّف ولو أخطأ إذا بذل وسعه، قال: وأمَّا اختلافهم فسببه تعارض الأدَّلة عندهم، فالصَّلاة مأمورٌ بها في الوقت، والمفهوم مِن «لا يصلِّينَّ» المبادرة، فأخذ بذلك من صلَّى لخوف فوات الوقت، والآخرون أخَّروها عملًا بالأمر بالمبادرة لبني قريظة. انتهى. واستُشكِل قوله هنا: «العصر»‼ مع ما في مسلمٍ: «الظُّهر»، وأُجيب بأنَّ ذلك كان بعد دخول وقت الظُّهر، فقِيلَ لمن صلَّاها بالمدينة: لا تصّلِ العصر إلَّا في بني قريظة، ولمن لم يصلِّها: لا تصلِّ الظُّهر إلَّا فيهم. ويأتي مزيدٌ لذلك إن شاء الله تعالى في «المغازي» [خ¦4119] بعون الله تعالى.
          ورواة هذا الحديث ما بين بصريٍّ ومدنيٍّ، وفيه: التَّحديث والعنعنة والقول، وأخرجه مسلمٌ _كالبخاريِّ_ في «المغازي».


[1] زيد في (د): «ابن»، وليس بصحيحٍ.
[2] «ولم يضبطها في اليونينيَّة»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[3] قوله: «والقول: بأنَّهم صلَّوا ركبانًا؛ لابن المُنَيِّر... ولم أره صريحًا في شيءٍ من طرق هذه القصَّة» ليس في (م).
[4] زيد في (س): «ذلك».