إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة

          886- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ‼ (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) ولأبي ذَرٍّ في نسخةٍ: ”عن مالكٍ“ (عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ) أباه (عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ) بكسر السِّين المُهمَلة وفتح المُثنَّاة التَّحتيَّة ثمَّ راءٍ ممدودةٍ، أي: حريرٌ بَحْتٌ، وأهل العربيَّة على إضافة «حلَّةٍ» لتاليه كثوبِ خزٍّ، وذكر ابن قُرقُول ضبطه كذلك عن المتقنين، ولأبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ(1): ”حلَّةً سِيرَاء“ بالتَّنوين على الصِّفة أو البدل، وعليه أكثر المحدِّثين، لكن قال سيبويه: لم يأت «فِعَلاء» وصفًا، والحلِّة لا تكون إلَّا من ثوبين، وسُمِّيت «سِيَراء» لما فيها من الخطوط الَّتي تشبه السُّيُور، كما يُقال: ناقةٌ عُشَرَاء إذا كمل لِحَمْلِها(2) عشرة أشهر. (فَقَالَ) عمر: (يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ) الحلَّة (فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ) لكان حسنًا، أو «لو»(3): للتَّمنيِّ لا للشَّرط، فلا تحتاج(4) للجزاء، وفي رواية البخاريِّ أيضًا: «فلبستها للعيد وللوفد»(5) (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إَنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ) أي: الحلَّةَ الحريرَ (مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) أي: من لا حظَّ له ولا نصيب له من الخير (فِي الآخِرَةِ) كلمة «مَنْ» تدلُّ على العموم، فيشمل الذُّكور والإناث، لكنَّ الحديث مخصوصٌ بالرِّجال لقيام دلائل أُخَر(6) على إباحة الحرير للنِّساء.
           (ثمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلعم مِنْهَا) أي: من جنس الحلَّة السِّيَرَاء (حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ☺ مِنْهَا) أي: من الحلل (حُلَّةً) ولأبي ذَرٍّ: ”فأعطى منها عمر بن الخطَّاب ☺ حلَّةً“ (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ) وللأَصيليِّ: ”فقال عمر بن الخطَّاب: يا رسول الله“ (كَسَوْتَنِيهَا) أي: الحلَّة (وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ) بضمِّ المُهمَلة وكسر الرَّاء، وهو ابن حاجب ابن زرارة التَّميميُّ، قدم في وفد بني تميمٍ على رسول الله صلعم ، وأسلم وله صحبةٌ (مَا قُلْتَ؟) من أنه: «إنَّما(7) يلبسها من لا خلاق له» [خ¦2104] (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) له: (إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) بل لتنتفع بها في غير ذلك، وفيه دليلٌ على أنَّه يُقال: كَسَاهُ إذا أعطاه كسوةً، لبسها أم لا، ولـ «مسلمٍ»: «أعطيتكها تبيعها وتصيب بها حاجتك»، ولأحمد: «أعطيتكه تبيعه» فباعه بألفي درهم، لكنَّه يشكل بما هنا من قوله: (فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ☺ أَخًا لَهُ) من أمِّه، عثمان بن حكيمٍ، قاله المنذريُّ، أو هو أخو أخيه زيد بن الخطَّاب لأمِّه أسماء بنت وهبٍ، قاله الدِّمياطيُّ، أو كان أخاه من الرَّضاعة، وانتصاب «أخًا» على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لـ «كسا»، يُقال: كسوته جبَّةً، فيتعدَّى إلى مفعولين، وقوله: «له» في محلِّ نصبٍ صفةٌ لقوله: «أخًا»، تقديره: أخًا كائنًا له‼، وكذا قوله: (بِمَكَّةَ مُشْرِكًا) نُصِبَ صفةً بعد صفةٍ، واختُلِفَ في إسلامه، فإن قلت: الصَّحيح أنَّ الكفَّار مُخاطَبون بفروع الشَّريعة، ومقتضاه تحريم لبس الحرير عليهم، فكيف كساها عمر أخاه المشرك؟ أجيب بأنَّه يُقال: كساه إذا أعطاه كسوةً لبسها أم لا كما مرَّ، فهو إنَّما أهداها له لينتفع بها، ولا يلزم منه لبسها.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة: من / جهة دلالته على استحباب التَّجمُّل يوم الجمعة، والتَّجمُّل يكون بأحسن الثِّياب، وإنكاره ╕ على عمر لم يكن لأجل التَّجمُّل، بل لكون تلك الحلَّة كانت حريرًا.
          تنبيهٌ: أفضل ألوان الثِّياب البياض لحديث: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنَّها خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم» رواه التِّرمذيُّ وغيره وصحَّحوه، ثمَّ ما صُبِغ غزله قبل نسجه كالبُرد، لا ما صُبِغ منسوجًا، بل يُكرَه لبسه كما صرَّح به البَنْدَنِيجيُّ وغيره، ولم يلبسه صلعم ، ولبس البُرود، ففي «البيهقيِّ» عن جابرٍ: أنَّه صلعم كان له بردٌ يلبسه في العيدين والجمعة، وهذا في غير المُزعفَر والمُعصفَر، والسُّنَّة أن يزيد الإمام في حُسن الهيئة والعِمَّة والارتداء للاتِّباع، ويترك السَّواد لأنَّه أَوْلى إلَّا إن خشي مفسدَةَ تترتَّب على تركه من سلطانٍ أو غيره.
          وقد أخرج المؤلِّف الحديث في «الهبة» [خ¦2612]، ومسلمٌ في «اللِّباس»، وأبو داود والنَّسائيُّ في «الصَّلاة».


[1] «والأصيليِّ»: ليس في (ب).
[2] في غير (ب) و(س): «حملها».
[3] «لو»: ليس في (د).
[4] في غير (ب) و(س): «يحتاج».
[5] لفظ البخاري [3054]: «فتجمّل بها للعيد وللوفد»، وأخرجه بهذا اللفظ مسلم.
[6] في (م): «أخرى».
[7] «إنَّما»: ليس في (م).