إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}

          ░56▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ}) أي: أتعبدون من الأصنام ما تنحتونها وتجعلونها(1) بأيديكم والله خلقكم ({وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]) أي: وخلق عملكم وهو التَّصوير والنَّحت كـ: عَمِلَ الصَّائغُ السِّوارَ، أي: صاغه، فجوهرُها بخلق الله، وتصويرُ أشكالها وإن كان من عملهم فبخلقه تعالى وإقدارهم على ذلك، وحينئذٍ فـ {مَا} مصدريَّةٌ على ما اختاره سيبويه؛ لاستغنائها عن الحذف والإضمار، منصوبة المحلِّ عطفًا على الكاف والميم في {خَلَقَكُمْ} وقيل: هي موصولةٌ بمعنى «الذي» على حذف الضَّمير، منصوبة المحلِّ عطفًا على الكاف والميم من {خَلَقَكُمْ} أيضًا، أي: أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم وخلق ذلك(2) الذي تعملونه بالنَّحت، ويرجِّح كونها بمعنى «الذي» ما قبلها وهو قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}[الصافات:95] توبيخًا لهم على عبادة ما عملوه بأيديهم من الأصنام؛ لأنَّ كلمة {مَا} عامَّةٌ تتناول(3) ما يعلمونه من الأوضاع والحركات والمعاصي والطَّاعات وغير ذلك، فإنَّ المراد بأفعال العباد المختلف في كونها بخلق العبد، أو بخلق الرَّبِّ ╡: هو ما يقع بكسب العبد ويُسنَد إليه مثل الصَّوم والصَّلاة والأكل والشُّرب والقيام والقعود ونحو ذلك، وقيل: إنَّها استفهاميَّةٌ منصوبةُ المحلِّ بقوله: {تَعْمَلُونَ} استفهام توبيخٍ وتحقيرٍ لشأنها، وقيل: نكرةٌ موصوفةٌ حكمها حكم الموصوف(4)، وقيل: نافيةٌ، أي: إنَّ العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون ذلك لكنَّ الله هو خالقه، والذي ذهب إليه أكثر أهل السُّنَّة أنَّها مصدريَّةٌ، وقال(5) المعتزلة: إنَّها موصولةٌ محاولةً لمعتقدهم الفاسد، وقالوا: التَّقدير أتعبدون حجارةً تنحتونها والله خلقكم وخلق تلك الحجارة التي تعملونها؟ قال السُّهيليُّ في «نتائج الفِكَر»: ولا يصحُّ ذلك من جهة النَّحو؛ إذ «ما» لا يصحُّ أن(6) تكون مع الفعل الخاصِّ إلَّا مصدريَّةً‼ فعلى هذا فالآية تردُّ مذهبهم وتفسد قولهم، والنَّظم على قول أهل السُّنَّة أبدع، فإن قيل: قد تقول: عملت الصَّحفة وصنعت الجفنة، وكذا يصحُّ: عملت الصَّنم، قلنا: لا يتعلَّق ذلك إلَّا بالصُّورة التي هي التَّركيب والتَّأليف، وهي الفعل الذي هو الإحداث دون الجواهر بالاتفاق، ولأنَّ الآية وردت في إثبات استحقاق الخالق العبادة لانفراده بالخلق، وإقامة الحجَّة على من يعبد ما لا يخلق وهم يُخلَقون، فقال: أتعبدون ما لا يَخلق، وتَدَعون عبادة من خلقكم وخلق أعمالكم التي تعملون، ولو كان كما زعموا لَمَا قامت(7) الحجَّة من هذا الكلام؛ لأنَّه لو جعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق الأجناس لشرّكهم معه في الخلق _تعالى الله عن إفكهم_ وقال البيهقيُّ في «كتاب الاعتقاد»: قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[غافر:62] فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشَّرِّ، وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[الرعد:16] فنفى أن يكون خالقٌ غيرَه، ونفى أن يكون شيءٌ سواه غيرَ مخلوقٍ، فلو كانت الأفعال غيرَ مخلوقةٍ له لكان خالقَ بعضِ شيءٍ، وهو بخلاف الآية، ومن المعلوم أنَّ الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الأعيان، والنَّاس خالقي الأفعال، لكان مخلوقات النَّاس أكثر من مخلوقات الله _تعالى الله عن ذلك_ وقال الشَّمس الأصفهانيُّ(8) في تفسير قوله(9): {وَمَا تَعْمَلُونَ}: أي: عملكم، وفيه دليلٌ على أنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله تعالى، وأنَّها مكتسبةٌ للعباد حيث أثبت لهم عملًا، فأبطلت هذه الآية مذهب القدريَّة والجبريَّة معًا، وقد رجَّح بعض العلماء كونها مصدريَّةً؛ لأنَّهم(10) لم يعبدوا الأصنام إلَّا لعملهم لا لجرم الصَّنم، وإلَّا لكانوا يعبدونه قبل / النَّحت، فكأنَّهم عبدوا العمل، فأنكر عليهم عبادة المنحوت الذي لم ينفكَّ عن عمل المخلوق، وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة: سلَّمنا أنَّها موصولةٌ، لكن(11) لا نسلِّم أنَّ للمعتزلة فيها حجَّةً؛ لأنَّ قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ} يدخل فيه ذاتهم وصفاتهم، وعلى هذا إذا كان خلقكم وخلق الذي تعملونه إن كان المراد خلقه لها(12) قبل النحت؛ لزم أن يكون المعمول غير المخلوق وهو باطلٌ، فثبت أنَّ المراد خلقه لها قبل النَّحت وبعده، وأنَّ الله خلقها بما فيها من التَّصوير والنَّحت، فثبت أنَّه خالقُ ما تولَّد من فعلهم، ففي الآية دليلٌ على أنَّ الله(13) تعالى خلق أفعالهم القائمة بهم وخلق ما تولَّد عنها، وقال الحافظ عماد الدِّين ابن كثيرٍ: كلٌّ من قولَي المصدر والموصول متلازمٌ(14)، والأظهر ترجيح المصدريَّة؛ لِمَا رواه البخاريُّ في كتاب «خلق أفعال العباد» من‼ حديث حذيفة مرفوعًا: «إنَّ الله يصنع(15) كلَّ صانعٍ وصنعته» وأقوال الأئمَّة في هذه المسألة كثيرةٌ، والحاصل أنَّ العمل يكون مسندًا إلى العبد من حيث إنَّ له قدرةً عليه، وهو المسمَّى بالكسب، ومسندًا إلى الله تعالى من حيث إنَّ وجوده بتأثيره، فله جهتان: بإحداهما: ينفي الجبر، وبالأخرى ينفي القدر، وإسناده إلى الله حقيقة، وإلى العبد عادة، وهي صفةٌ يترتَّب عليها الأمر والنَّهي والفعل والتَّرك، فكلُّ ما أُسنِد من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنَّظر إلى تأثير القدرة، ويقال له الخلق، وما أسند إلى العبد إنَّما يحصل بتقدير الله تعالى، ويُقال له الكسب، وعليه يقع المدح والذَّمُّ كما يُذَمُّ المشوَّه الوجه، ويُحمَد الجميل الصَّورة، وأمَّا الثَّواب والعقاب فهو علامةٌ، والعبد إنَّما هو ملكٌ لله، يفعل فيه ما يشاء، والله أعلم.
          وقوله تعالى: ({إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]) مُقدَّرًا مُرتَّبًا على مقتضى الحكمة، أو مُقدَّرًا مكتوبًا في اللَّوح المحفوظ معلومًا قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه، و{كُلَّ شَيْءٍ} منصوبٌ على الاشتغال، وقرأ أبو(16) السَّمَّال بالرَّفع، ورجَّح النَّاس النَّصب، بل أوجبه ابن الحاجب حذرًا من لبس المفسَّر بالصِّفة؛ لأنَّ الرَّفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السُّنَّة، وذلك لأنَّه إذا رُفِع كان مبتدأً، و{خَلَقْنَاهُ} صفةً لـ {كُلَّ} أو لـ {شَيْءٍ}، و{بِقَدَرٍ} خبره، وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يخفى على متأمِّله، فيلزم أن يكون الشَّيء الذي ليس مخلوقًا لله تعالى لا بقدرٍ، وقال أبو البقاء: وإنَّما كان النَّصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرَّفع لا يدلُّ على عمومه، بل يفيد أنَّ كلَّ شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدرٍ(17). انتهـى. وإنَّما دلَّ النَّصب في { كُلَّ} على العموم؛ لأنَّ التَّقدير إنَّا خلقنا كلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ، فـ {خَلَقْنَاهُ} تأكيدٌ وتفسيرٌ لـ {خَلَقْنَاهُ} المضمر النَّاصب لـ {كُلَّ} وإذا حذفته وأظهرت الأوَّل صار التَّقدير إنَّا خلقنا كلَّ شيءٍ بقدرٍ، فـ {خَلَقْنَاهُ} تأكيدٌ وتفسيرٌ لـ {خَلَقْنَاهُ} المضمر النَّاصب لـ «كلَّ شيءٍ» فهذا لفظٌ عامٌّ يعمُّ جميع المخلوقات، ولا يجوز أن يكون {خَلَقْنَاهُ} صفةٌ لـ { شَيْءٍ} لأنَّ الصِّفة والصِّلة لا يعملان فيما قبل الموصوف ولا الموصول، ولا يكونان تفسيرًا لِمَا يعمل فيما قبلهما، فإذا لم يبق {خَلَقْنَاهُ} صفة لم يبقَ إلَّا أنَّه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النَّاصب، وذلك يدلُّ على العموم، وقد نازع الرَّضيُّ ابنَ الحاجب في قوله(18) السَّابق فقال: المعنى في الآية لا يتفاوت بجعل الفعل خبرًا أو صفةً وذلك لأنَّ مراد الله تعالى بـ { كُلَّ شَيْءٍ}: كلُّ مخلوقٍ، نصبتَ {كُلَّ} أو رفعتَه، سواءٌ جعلت {خَلَقْنَاهُ} صفة { كُلَّ}(19) مع الرَّفع أو خبرًا عنه، وذلك أنَّ قوله: «خلقنا كلَّ شيءٍ بقدرٍ(20)» لا يريد به خلقنا كلَّ ما يقع عليه اسم شيءٍ؛ لأنَّه تعالى لم يخلق الممكنات غير المتناهية، ويقع على كلِّ واحدٍ منها اسم «شيء» فـ {كُلَّ شَيْءٍ} في هذه الآية ليس كما في قوله تعالى: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284] لأنَّ معناه أنَّه قادرٌ‼ على ممكنٍ غير متناهٍ، فإذا تقرَّر هذا قلنا: إنَّ معنى {كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} على أنَّ {خَلَقْنَاهُ} هو الخبر: كل مخلوقٍ مخلوقٌ بقدرٍ، وعلى أنَّ {خَلَقْنَاهُ} صفةٌ: كلُّ شيءٍ مخلوقٍ كائنٌ بقدرٍ، والمعنيان واحدٌ؛ إذ لفظ {كُلَّ شَيْءٍ} في الآية مختصٌّ بالمخلوقات، سواءٌ كان {خَلَقْنَاهُ} صفةً له أو خبرًا، وليس ذلك(21) مع التَّقدير الأوَّل أعمَّ منه مع التَّقدير الثَّاني كما في مثالنا.
          (وَيُقَالُ) بضمِّ أوَّله (لِلْمُصَوِّرِينَ) يوم القيامة، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيّ: ”ويقول“ أي: الله أو الملَك بأمره تعالى: (أَحْيُوا) بفتح الهمزة (مَا خَلَقْتُمْ) أسند الخلق إليهم على سبيل الاستهزاء والتَّعجيز والتَّشبيه في الصُّورة فقط، وقال ابن بطَّالٍ: إنَّما نسب خلقها إليهم تقريعًا لهم لمضاهاتهم الله تعالى في خلقه، فبكَّتهم بأن قال: إذ شابهتم بما صوَّرتم مخلوقات الله تعالى فأحيوها كما أحيا هو _جلَّ وعلا_ ما خلق، وقال في «الكواكب»: أسند الخلق إليهم صريحًا، وهو خلاف التَّرجمة، لكنَّ المراد كسبهم، فأُطلِق الخلق عليه استهزاءً، أو ضمَّن «خلقتم» معنى: «صوَّرتم» تشبيهًا بالخلق، أو أُطلِق بناءً على زعمهم فيه / .
          ({إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}) أي: في ستَّة أوقاتٍ، أو مقدار ستَّة أيَّامٍ، فإنَّ المتعارف زمان طلوع الشَّمس إلى غروبها، ولم يكن حينئذٍ، وفي خلق الأشياء تدريجًا مع القدرة على إيجادها دفعةً دليلٌ على الاختيار، واعتبارٌ للنُّظَّار، وحثٌّ على التَّأنِّي في الأمور ({ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}) الاستواء «افتعالٌ» من السَّواء، والسَّواء يكون بمعنى: العدل والوسط، وبمعنى: الإقبال كما نقله الهرويُّ عن الفرَّاء، وتبعه ابن عرفة، وبمعنى: الاستيلاء، وأنكره ابن الأعرابيِّ وقال: العرب لا تقول: استولى، إلَّا لمن له(22) مضادٌّ، وفيما قاله نظرٌ، فإنَّ الاستيلاء من الولاء وهو القرب، أو من الولاية، وكلاهما لا يفتقر في إطلاقه لمضادٍّ(23)، وبمعنى: اعتدل، وبمعنى: علا، وإذا عُلِم هذا فيُنزَّل على ذلك الاستواء المناسب إلى البارئ(24) تعالى على الوجه اللائق به، وقد ثبت عن الإمام مالكٍ أنَّه سُئِل: كيف استوى؟ فقال: «كيف» غير معقولٍ، والاستواء غير مجهولٍ، والإيمان به واجبٌ، والسُّؤال عنه بدعةٌ، فقوله: «كيف» غير معقولٍ؟ أي: «كيف» من صفات الحوادث، وكلُّ ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيُجزَم بنفيه عن الله تعالى، وقوله: «والاستواء غير مجهولٍ» أي: أنَّه معلوم المعنى عند أهل اللُّغة، و«الإيمان به على الوجه اللَّائق به تعالى واجبٌ»؛ لأنَّه من الإيمان بالله تعالى وكتبه(25)، و«السُّؤال عنه بدعةٌ» أي: حادثٌ؛ لأنَّ الصَّحابة ♥ كانوا عالمين بمعناه اللَّائق بحسب اللُّغة، فلم يحتاجوا للسُّؤال عنه، فلمَّا جاء من‼ لم يُحَط بأوضاع لغتهم ولا له نورٌ كنورهم يهديه لنور صفات البارئ تعالى؛ شرع يسأل عن ذلك، فكان سؤاله سببًا لاشتباهه على النَّاس وزيغهم(26)، وتعيَّن على العلماء حينئذٍ أن يهملوا البيان، وقد مرَّ أنَّ «استوى» «افتعل» وأصله: العدل، وحقيقة الاستواء المنسوب إلى الله(27) تعالى في كتابه بمعنى: اعتدل، أي: قام بالعدل، وأصله من قوله: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} إلى قوله: {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}[آل عمران:18] والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنَّه أعطى بعزَّته كلَّ شيءٍ خلقه موزونًا بحكمته البالغة في التَّعريف لخلقه بوحدانيَّته، ولذلك قرنه بقوله: {لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والاستواء المذكور في القرآن استواءان: سماويٌّ وعرشيٌّ، فالأوَّل: مُعدًّى بـ «إلى» قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}[البقرة:29] والثَّاني: بـ «على» لأنَّه تعالى قام بالقسط متعرِّفًا بوحدانيَّته في عالمَين _عالم الخلق، وعالم الأمر_ وهو عالم التَّدبير(28)، فكان استواؤه على العرش للتَّدبير بعد انتهاء عالم الخلق، وبهذا يُفهَم سرُّ تعدية الاستواء العرشيِّ بـ «على» لأنَّ التَّدبير للأمر لا بدَّ فيه من استعلاءٍ واستيلاءٍ، والعرش جسمٌ كسائر الأجسام، سُمِّي به لارتفاعه، أو للتَّشبيه بسرير الملِك، فإنَّ الأمور والتَّدابير تنزل منه ({يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}) يغطِّيه(29)، ولم يذكر عكسه للعلم به ({يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}) يعقبه سريعًا كالطَّالب له، لا يفصل بينهما شيءٌ، والحثيث «فعيلٌ» من الحثِّ، وهو صفة مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من الفاعل بمعنى: حاثًّا، أو المفعول بمعنى: محثوثًا ({وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ }) بقضائه وتصريفه، ونصبها بالعطف على {السَّمَاوَاتِ} ونصب {مُسَخَّرَاتٍ} على الحال ({أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ت}) فإنَّه الموجد والمتصرِّف ({تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]) تعالى بالوحدانيَّة في الألوهيَّة، وتعظَّم بالتفرُّد في الرُّبوبيَّة، وسقط لأبي ذرٍّ قوله «{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}...» إلى آخر الآية، وقال بعد قوله: {وَالأَرْضَ} ”إلى: {تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}“.
          (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان، فيما وصله ابن أبي حاتمٍ في كتاب «الرَّدِّ على الجهميَّة»: (بَيَّنَ اللهُ الخَلْقَ مِنَ الأَمْرِ) أي: فرَّق بينهما (بِقَوْلِهِ(30) تَعَالَى) في الآية السَّابقة: ({أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف:54]) حيث عطف أحدهما على الآخر، فـ {الْخَلْقُ} هو المخلوقات، و{الأَمْرُ} هو الكلام، فالأوَّل حادثٌ، والثَّاني قديمٌ، وفيه: أن لا خلق لغيره تعالى، حيث حصر على ذاته تعالى بتقديم الخبر على المبتدأ (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلعم الإِيمَانَ عَمَلًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ) الغفاريُّ ☺ فيما وصله المؤلِّف في «العتق» [خ¦2518] (وَأَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ فيما وصله في «الإيمان» [خ¦26] و«الحجِّ» [خ¦1519] (سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم : أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، وَقَالَ) تعالى: ({جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17]) من الإيمان وغيره من(31) الطَّاعات، فسمِّي الإيمان‼ عملًا حيث أدخله في جملة الأعمال (وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ) ربيعة (لِلنَّبِيِّ صلعم ) فيما وصله المؤلِّف بعدُ [خ¦7555]: (مُرْنَا بِجُمَلٍ) أمورٍ(32) كليَّةٍ مجملةٍ (مِنَ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ) أي: بتصديق الشَّارع ╕ فيما عُلِم مجيئه به ضرورةً (وَالشَّهَادَةِ) / بالوحدانيَّة لله تعالى (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) المفروضة (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) المكتوبة (فَجَعَلَ) صلعم (ذَلِكَ كُلَّهُ)ومن جملته الإيمان (عَمَلًا).


[1] في (ب) و(س): «تعملونها».
[2] «ذلك»: مثبتٌ من (د).
[3] في (د): «متناولةٌ».
[4] في (د): «الموصول»، وهو تحريفٌ.
[5] في (ص): «وقالت».
[6] «أن»: ليس في (د)، و«يصحُّ أن»: ليس في (ص) و(ع).
[7] في (د): «زعموا لكانت»، ولا يصحُّ.
[8] في (د): «الأصبهانيُّ».
[9] في (د): «تفسيره».
[10] في (د): «لكونهم».
[11] في (د): «لكنَّا».
[12] في (د): «له».
[13] في (د): «على أنَّه».
[14] قال الشيخ قطة ☼ : لعلَّ الأصوب أن يقول: «وكلا قولي المصدر والموصول متلازمان» لما لا يخفى.
[15] في (ع): «صانعٌ».
[16] زيد في (ص): «بكر»، ولعلَّه تحريفٌ.
[17] في (ص): «مُقدَّرٌ».
[18] قوله في مصابيح الجامع (10/271): «جعله ابن الحاجب مثالاً لما يجب فيه النصب في باب الاشتغال؛ حذرًا من لبس المفسَّر بالصفة فيوقع ذلك في خلاف المقصود».
[19] في غير (ب) و(س): «كائن»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[20] «بقدرٍ»: ليس في (ص).
[21] «ذلك»: مثبتٌ من (ع).
[22] «له»: ليس في (د).
[23] في (د) و(ع): «لمضادةٍ».
[24] في (ب) و(س): «الثَّابت للبارئ».
[25] في (د): «وبكتبه».
[26] في (د): «زيفهم».
[27] في (د): «لله».
[28] في (د): «التقدير».
[29] في (د): «يطلبه».
[30] في (د): «لقوله»، وكذا في «اليونينيَّة».
[31] قوله: «غيره من»: ليس في (ع).
[32] «أمور»: ليس في (د).