إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا وأربعين ليلةً

          7454- وبه قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ) بن أبي إياسٍ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمان قال: (سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ) الجهنيَّ(1)، هاجر ففاتته رؤيته صلعم قال: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ ☺ : حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”قال حدَّثنا(2)“ وله عن الحَمُّويي والمُستملي: ”يقول: حدَّثنا“ (رَسُولُ اللهِ صلعم وَهْوَ الصَّادِقُ) في نفسه (المَصْدُوقُ) فيما وعده به(3) ربُّه: (إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ) قال أبو البقاء: لا يجوز في «إنَّ» إلَّا الفتح؛ لأنَّ ما قبله «حدَّثنا» قال البدر الدَّمامينيُّ: بل يجوز الأمران _الفتح والكسر_ أمَّا الفتح فلِمَا قال، وأمَّا الكسر فإن بنينا على مذهب الكوفيِّين في جواز الحكاية بما(4) فيه معنى القول دون حروفه فواضحٌ، وإن بَنَيْنا على مذهب البصريِّين وهو المنع(5) نقدِّر قولًا محذوفًا يكون ما بعده محكيًّا به، فتُكسَر همزة «إنَّ» حينئذٍ بالإجماع، والتَّقدير حدَّثنا فقال: إنَّ خلق أحدكم (يُجْمَعُ) بضمِّ أوَّله وفتح ثالثه، أي: ما يُخلَق منه وهو النُّطفة تقرُّ وتُخزَّن(6) (فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ليتخمَّر فيها حتَّى يتهيَّأ(7) للخلق (ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً) دمًا غليظًا جامدًا (مِثْلَهُ) أي: مثل ذلك الزَّمان، وهو أربعون يومًا وأربعون ليلةً (ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً) قطعة لحمٍ قدر ما يُمضَغ (مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ثمَّ يبعث الله الملك“ الموكَّل بالرَّحم في الطَّور الرَّابع حين يتكامل بنيانه وتتشكَّل أعضاؤه (فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) يكتبها (فَيَكْتُبُ) من القضايا المقدَّرة في الأزل (رِزْقَهُ) كلَّ ما يسوقه إليه ممَّا يُنتَفع به؛ كالعلم والرِّزق حلالًا وحرامًا، قليلًا وكثيرًا / (وَأَجَلَهُ) طويلًا أو قصيرًا (وَعَمَلَهُ)‼ أصالحٌ أم لا؟ (وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟) حسبما اقتضته حكمته وسبقت به(8) كلمته، وكان من حقِّ الظَّاهر أن يُقال: سعادته وشقاوته، فعدل عنه إمَّا حكايةً لصورة ما يكتبه؛ لأنَّه يكتب شقيٌّ أو سعيدٌ، أو التَّقدير أنَّه شقيٌّ أو سعيدٌ فعدل؛ لأنَّ الكلام مسوقٌ إليهما، والتَّفصيل واردٌ عليهما، قاله في «شرح المشكاة»، وقال في «المصابيح»: «أم» _أي: في قوله أم سعيدٌ_ هي المتَّصلة، فلا بدَّ من تقدير الهمزة محذوفةً، أي: أشقيٌّ أم سعيدٌ، فإن قلت: كيف يصحُّ تسليط فعل الكتابة على هذه الفعليَّة الإنشائيَّة(9) التي هي من كلام المَلَك، فإنَّه يسأل ربَّه عن الجنين أشقيٌّ هو أم سعيدٌ؟ فما أخبر(10) الله به من سعادته أو شقاوته كتبه الملك، ومقتضى الظَّاهر أن يُقال: وشقاوته أو سعادته، فما وجه ما وقع هنا؟ قلت: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، تقديره وجواب «أشقيٌّ(11) أم سعيدٌ» وجواب هذا اللَّفظ هو شقيٌّ أو هو سعيدٌ، فمضمون هذا الجواب هو الذي يُكتَب، وانتظم الكلام ولله الحمد، وهو نظير قولهم: علمت أزيدٌ قائمٌ، أي: جواب هذا الكلام، ولولا ذلك لم يستقم ظاهره لمنافاة الاستفهام لحصول العلم وتحقُّقه (ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ) بعد تمام صورته (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ) من الطَّاعة (حَتَّى لَا) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”حتَّى ما“ (يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ) هو مَثَلٌ يُضرَب لمعنى المقاربة إلى الدُّخول (فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ)(12) الذي كتبه الملك وهو في بطن أمِّه عقب ذلك (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) من المعصية (فَيَدخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ(13) أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا).
          فيه أنَّ ظاهر الأعمال من الطَّاعات والمعاصي أماراتٌ وليست بموجباتٍ، فإنَّ مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في السَّابقة.
          والحديث سبق(14) في «بدء الخلق» [خ¦3208] وغيره، والله الموفِّق والمعين.


[1] زيد في (د): «لمَّا».
[2] «حدَّثنا»: مثبتٌ من (د).
[3] في (د): «فيه»، وفي الهامش نسخةٌ كالمثبت.
[4] في (ع): «ممَّا»، والمثبت موافق لمصابيح الجامع.
[5] زيد في غير (ب) و(س): «أن»، وعبارة «المصابيح» (ص 226): «فلا مانع أن...»، ولعلَّ المثبت صوابٌ.
[6] في (ص) و(ع): «يقرّ ويخزن».
[7] زيد في (د): «فيها».
[8] «به»: مثبتٌ من (د).
[9] في «مصابيح الجامع»(1/226): «الجملة الإنشائية».
[10] في (س): «أخبره»، والمثبت موافق للمصابيح.
[11] في (د): «وشقيٌّ».
[12] زيد في (ع): «وتحقُّقه».
[13] في (د) و(ص): «بعمل»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[14] في (ص): «وسبق ذلك».