إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله

          7379- وبه قال: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) القطوانيُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) أبو محمَّدٍ مولى الصِّدِّيق قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد(1) (عَبْدُ(2) اللهِ بْنُ دِينَارٍ) المدنيُّ مولى ابن عمر، (عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ) أي: أنَّه تعالى يعلم ما غاب عن العباد من الثَّواب والعقاب، والآجال والأحوال، جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة؛ لأنَّ المفاتيح يتوصَّل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالإغلاق والإقفال، ومن علم مفاتيحها وكيفيَّة فتحها توصَّل(3) / إليها، فأراد أنَّه المتوصِّل إلى المغيَّبات المحيط علمه بها(4)، لا يتوصَّل إليها غيره، فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم، فيُظهِرها على ما اقتضه حكمته وتعلَّقت به مشيئته، وفيه دليلٌ على أنَّه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها، والحكمة في كونها خمسًا: الإشارة إلى حصر العوالم فيها، فأشار إلى ما يزيد في النَّفس وينقص بقوله: (لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ) أي: ما تُنقصُه، يقال‼: غاض الماء وغِضْتُه أنا، وما تزداد، أي: ما تحمله من الولد على أيِّ حالٍ هو؟ من ذكورةٍ وأنوثةٍ، وعددٍ؛ فإنَّها تشتمل على واحدٍ واثنين وثلاثةٍ وأربعةٍ، أو جسد الولد فإنَّه يكون تامًّا ومُخدَجًا، أو مدَّة الولادة فإنَّها(5) تكون أقلَّ من تسعة أشهرٍ وأزيد عليها إلى أربعٍ عند الشَّافعيِّ، وإلى سنتين عند الحنفيَّة، وإلى خمسٍ عند مالكٍ، وخصَّ الرَّحم بالذِّكر؛ لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك نفى أن يعرف أحدٌ حقيقتها. نعم إذا أمر بكونه ذكرًا أو أنثى أو شقيًّا(6) أو سعيدًا علم به الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وأشار إلى أنواع الزَّمان وما فيها من الحوادث بقوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ) من خيرٍ وشرٍّ وغيرهما (إِلَّا اللهُ) وعبَّر بلفظ «غدٍ» لأنَّ حقيقته أقرب الأزمنة، وإذا كان مع قربه لا يُعلَم حقيقة ما يقع فيه فما(7) بعده أحرى، وأشار إلى العالم العلويِّ بقوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ) ليلًا أو نهارًا (أَحَدٌ إِلَّا اللهُ) نعم إذا أمر به؛ علمته الملائكة الموكَّلون به ومن شاء الله من خلقه، وأشار إلى العالم السُّفليِّ بقوله: (وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللهُ) أي: أين تموت؟ وربَّما أقامت بأرضٍ وضربت أوتادها وقالت: لا أبرح منها، فترمي بها مرامي القدر حتَّى تموت في مكانٍ لا(8) يخطر ببالها، كما رُوِي: أنَّ ملك الموت مرَّ على سليمان بن داود ♂ (9)، فجعل ينظر إلى رجلٍ من جلسائه يديم النَّظر إليه، فقال الرَّجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنَّه يريدني، فمُرِ الرِّيح أن تحملني وتلقيني بالهند، ففعل، فقال ملك الموت: كان دوام نظري إليه(10) تعجُّبًا منه؛ إذ أُمِرت أقبض روحه بالهند وهو عندك!
          وفي «الطَّبرانيِّ الكبير» عن أسامة بن زيدٍ قال: قال رسول الله صلعم : «ما جعل الله منيَّة عبدٍ بأرضٍ إلَّا جعل(11) له فيها حاجةً» وإنَّما جعل العلم لله والدِّراية للعبد؛ لأنَّ في الدِّراية معنى الحيلة، والمعنى أنَّها _أي: النَّفس_ لا تعرف _وإن(12) أعملت حيلتها(13)_ ما يختصُّ بها، ولا شيء أخصَّ بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريقٌ إلى معرفتهما؛ كان من معرفة ما عداهما(14) أبعد، وأمَّا المنجِّم الذي يخبر(15) بوقت الغيث(16) والموت فإنَّه يقول بالقياس والنَّظر في المطالع(17)، وما يدرك بالدَّليل لا يكون غيبًا، على أنَّه مجرَّد الظَّنِّ، والظَّنُّ غير العلم، والله تعالى أعلم، وأشار إلى علوم الآخرة بقوله: (وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ) فلا يعلم ذلك نبيٌّ مرسلٌ ولا ملكٌ مقرَّبٌ.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ، والحديث سبق في آخر «الاستسقاء» [خ¦1039].


[1] في (ع): «إفرادا».
[2] في (س): «عبيد»، وهو تحريفٌ.
[3] في (د): «يتوصَّل».
[4] زيد في (د): «وحده».
[5] في (ع): «لأنها».
[6] في غير (د): «أشقيًّا»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[7] في غير (س): «فيما»، ولعلَّه تحريفٌ.
[8] في (س): «لم».
[9] «بن داود ♂ »: ليس في (د).
[10] «إليه»: ليس في (س).
[11] زيد في (د): اسم الجلالة.
[12] في (د): «وإنَّما».
[13] في (د): «حيلها».
[14] في (ع): «سواهما».
[15] في (د) و(ع): «المنجِّمون الذين يخبرون».
[16] في (ب) و(س): «الغيب».
[17] في (ع): «الطَّالع».