إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن العين نائمة والقلب يقظان

          7281- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ) بفتح العين المهملة وتخفيف الموحَّدة الواسطيُّ، واسم جدِّه البَخْتَريُّ بفتح الموحَّدة وسكون المعجمة وفتح الفوقيَّة، وليس له في «البخاريِّ» سوى هذا الحديث، وآخر سبق(1) في «الأدب» [خ¦6106] ومن عداه في «الصَّحيحين» فبضمِّ العين قال: (أَخْبَرَنَا يَزِيدُ) بن هارون قال: (حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ) بفتح السِّين المهملة وكسر اللَّام، بوزن «عَظيمٍ» وفي الفرع مكتوبٌ على كشطٍ ”سُليمانُ“ وكذا في «اليونينيَّة» بزيادة ألفٍ ونونٍ وضمِّ السِّين(2)، وكذا هو في عدَّة نسخٍ، وهو سليمان بن حيَّان أبو خالدٍ الأحمر الكوفيُّ، والذي في «فتح الباري» و«عمدة القاري» و«الكواكب»: «سَليم» و«حيَّان» بفتح الحاء المهملة وتشديد التَّحتيَّة الهذليُّ البصريُّ، قال محمَّد بن عَبادة: (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) يزيد بن هارون خيرًا، قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) بكسر الميم وسكون التَّحتيَّة بعدها نونٌ فهمزةٌ ممدودًا، أبو الوليد قال: (حَدَّثَنَا أَو) قال(3): (سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريَّ ☻ ، والقائل: «حدَّثنا أو سمعت» سعيد بن ميناء، والشَّاكُّ سَليم بن حيَّان، شكَّ في أيِّ الصيغتين قالها شيخه سعيدٌ؟ ويجوز في «جابر» الرَّفع على تقدير حدَّثنا، والنَّصب على تقدير سمعت جابرًا (يَقُولُ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلعم وَهْوَ نَائِمٌ) ذكر منهم التِّرمذيُّ في «جامعه» اثنين: جبريل وميكائيل، فيُحتَمل أن يكون مع كلِّ واحدٍ منهما غيره، أو اقتصر فيه(4) على من باشر الكلام ابتداءً وجوابًا، وفي حديث ابن مسعودٍ عند التِّرمذيِّ وحسَّنه وصحَّحه ابن خزيمة: «أنَّه صلعم توسَّد(5) فَخِذَ فرقد، وكان إذا نام نفخ، قال: فبينا أنا قاعدٌ إذا أنا برجالٍ عليهم ثيابٌ بيضٌ، الله أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفةٌ منهم عند رأس رسول الله صلعم ، وطائفةٌ منهم عند رجليه» (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ وَالقَلْبَ يَقْظَانُ) قال الرَّامَهُرْمُزيُّ: هذا تمثيلٌ يُراد به حياة القلب وصحَّة خواطره، وقال البيضاويُّ فيما حكاه في «شرح المشكاة»: قول‼ بعضهم: «إنَّه نائمٌ...» إلى آخره. مناظرةٌ جرت بينهم بيانًا وتحقيقًا لِمَا أنَّ النُّفوس القدسيَّة الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواسِّ واستراحة الأبدان (فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا) يعنون النَّبيَّ صلعم (مَثَلًا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ وَالقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: مَثَلُهُ) ╕ (كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدَُبَةً) بفتح الميم وسكون الهمزة وضمِّ الدَّال وفتحها بعدها موحَّدةٌ مفتوحةٌ فهاء تأنيثٍ، وقيل: بالضَّمِّ: الوليمة، وبالفتح: أدب الله الذي أدَّب به عباده، وحينئذٍ فيتعيَّن الضَّمُّ هنا (وَبَعَثَ دَاعِيًا) يدعو النَّاس إليها (فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ، دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَأْدَُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ، لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ) وفي حديث ابن مسعودٍ عند أحمد: «بنى بنيانًا حصينًا، ثمَّ جعل مأدبةً، فدعا النَّاس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه، أكل من طعامه، وشرب من شرابه، ومن لم يجبه، عاقبه الله» (فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا) بكسر الواو المشدَّدة، أي: فسِّروا الحكاية أو التَّمثيل (لَهُ) صلعم (يَفْقَهْهَا) من أوَّل تأويلًا، إذا فسَّر الشَّيء بما يؤول إليه(6)، والتَّأويل في اصطلاح العلماء: تفسير اللَّفظ بما يحتمله احتمالًا غير بيِّنٍ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ العَيْنَ نَائِمَةٌ وَالقَلْبَ يَقْظَانُ) كرَّر «فقال بعضهم: إنَّه نائمٌ...» إلى آخره ثلاث مراتٍ، (فَقَالُوا: فَالدَّارُ) الممثَّل بها(7) (الجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلعم ) وفي حديث بن / مسعودٍ عند أحمد: «أمَّا السَّيِّد فهو ربُّ العالمين، وأمَّا البنيان فهو الإسلام، وأمَّا الطَّعام فهو الجنَّة، ومحمَّدٌ الدَّاعي، فمن اتَّبعه كان في الجنَّة» (فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلعم فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) لأنَّه رسول الله صاحب المأدبة، فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة (وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلعم فَقَدْ عَصَى اللهَ) فإن قلت: التَّشبيه يقتضي أن يكون مَثَل الباني هو مَثَل النَّبيِّ صلعم ، حيث قال: مثله كمثل رجلٍ بنى دارًا، لا مثل الدَّاعي، أجاب في «شرح المشكاة» فقال: قوله: «مثله(8) كمثل رجل» مطلعٌ للتَّشبيه وهو يُنبِئ عن أنَّ هذا ليس من التَّشبيهات المفرَّقة؛ كقول امرئ القيس:
كأنّ قلوبَ الطَّيْرِ رطبًا ويابسًا                     لدى وكرها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
شبَّه القلوب الرَّطبة بالعنَّاب، واليابسة بالحَشَف، على التَّفريق، بل هو من التَّمثيل الذي يُنتزَع فيه الوجهُ من أمور متعدِّدةٍ(9) متوهَّمةٍ منضمٍّ(10) بعضُها مع بعضٍ؛ إذ لو أريد التَّفريق لقيل: مثله كمثل داعٍ بعثه رجلٌ، ومن ثَمَّ قُدِّمت في التَّأويل «الدَّار» على «الدَّاعي» وعلى «المضيف» روعي في التَّأويل(11) أدبٌ حسنٌ حيث لم يصرِّح المشبِّه بالرَّجل، لكنَّه‼ لمَّح في قوله: «من أطاع الله» إلى ما يدلُّ على أنَّ المشبَّه من هو، قال الطِّيبيُّ: وتحريره أنَّ الملائكة مثَّلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرساله(12) الرَّحمة المهداة إلى الخلق، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] ثمَّ إعداده الجنَّة للخلق، ودعوته صلعم إيَّاهم إلى الجنَّة ونعيمها وبهجتها، ثمَّ إرشاده الخلق بسلوك الطَّريق إليها، واتِّباعهم إيَّاه بالاعتصام بالكتاب والسُّنَّة المُدْلَيَين إلى العالم السُّفليِّ، فكأنَّ النَّاس واقعون في مهواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها، وإنَّ الله يريد بلطفه رفعهم، فأَدْلى حبلَي(13) القرآن والسُّنَّة إليهم ليخلِّصهم(14) من تلك الورطة، فمن تمسَّك بهما، نجا وحصل في الفردوس الأعلى والجناب الأقدس عند مليكٍ مقتدرٍ، ومن أخلد إلى الأرض، هلك وأضاع نفسه من رحمة الله تعالى، بحال مضيفٍ كريمٍ بنى دارًا، وجعل فيها من أنواع الأطعمة المستلذَّة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف، ثمَّ بعث داعيًا إلى النَّاس يدعوهم إلى الضِّيافة إكرامًا لهم، فمن اتَّبع(15) الدَّاعي، نال من تلك الكرامة، ومن لم يتَّبع حُرِمَ منها، ثمَّ إنَّهم وضعوا مكانَ حلولِ سخط الله بهم ونزول العقاب السَّرمديِّ عليهم قولهم: «لم يدخلِ الدَّار، ولم يأكل من المَأدبة»؛ لأنَّ فاتحة الكلام سيقت لبيان سبق الرَّحمة على الغضب، فلم يطابق أن لو خُتِم بما يصرِّح بالعقاب والغضب، فجاؤوا بما يدلُّ على(16) المراد على سبيل الكناية (وَمُحَمَّدٌ صلعم فَرَّقَ) بتشديد الرَّاء: فارقٌ، ولغير أبي ذرٍّ: ”فَرْقٌ“ بسكونها على المصدر، وُصِفَ به للمبالغة، أي: الفارق (بَيْنَ النَّاسِ) المؤمن والكافر، والصَّالح والطَّالح؛ إذ به تميَّزتِ الأعمال والعمَّال، وهذا كالتَّذييل للكلام السَّابق؛ لأنَّه مشتملٌ على معناه ومؤكِّدٌ له، وفيه إيقاظٌ للسَّامعين من رقدة الغفلة، وحثٌّ على الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة والإعراض عمَّا يخالفهما.
          (تَابَعَهُ) أي: تابع محمَّد بن عَبَادة (قُتَيْبَةُ) بن سعيدٍ (عَنْ لَيْثٍ) هو ابن سعدٍ (عَنْ خَالِدٍ) أبي عبد الرَّحيم بن يزيدٍ المصريِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ) اللَّيثيِّ المدنيِّ (عَنْ جَابِرٍ) الأنصاريِّ ☺ أنَّه قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلعم ) وصله التِّرمذيُّ بلفظ: «خرج علينا النَّبيُّ صلعم يومًا فقال: إنِّي رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا، فقال: اسمع سَمِعتْ أذنك، واعقل عَقَلَ قلبك، إنَّما مثلك ومثل أمَّتك كمثل مَلِكٍ اتَّخذ دارًا، ثمَّ بنى فيها بناءً، ثمَّ جعل فيها مائدة(17)، ثمَّ بعث رسولًا يدعو النَّاس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرَّسول، ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدَّار الإسلام، والبيت الجنَّة، وأنت يا محمَّد‼ رسولٌ، من أجابك، دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام، دخل الجنَّة، ومن دخل الجنَّة، أكل ممَّا(18) فيها»، قال التِّرمذيُّ: وهو حديثٌ مرسلٌ؛ لأنَّ سعيد بن أبي هلالٍ لم يدرك جابرًا، قال في «الفتح»: يريد أنَّه منقطعٌ بين سعيدٍ وجابرٍ، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشيِّ عند الطَّبرانيِّ بنحو سياقه، وسنده جيِّدٌ، وأورده المؤلِّف لرفع توهُّم من ظنَّ أنَّ طريق سعيد بن ميناء موقوفٌ.


[1] «سبق»: ليس في (د).
[2] في (ع): «الشين»، وفي غير (د): «النون»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[3] «قال»: ليس في (د).
[4] «فيه»: سقط من (د).
[5] في (ب): «توسده».
[6] في غير (ب) و(س): «إذا فسر بما يؤل إليه الشيء» ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[7] «الممثل بها»: سقط من (د).
[8] «مثله»: سقط من (د).
[9] في (د): «معدودة».
[10] في (ع): «فنظم»، وهو تحريفٌ.
[11] في (ع): «التأويلات».
[12] في (د): «بإرسال».
[13] في (د) و(ص): «حبلٌ»، وكذا في شرح المشكاة، وزيد قبلها في (ص): «إلى العالم السفلي».
[14] في (ع): «لتخليصهم».
[15] في (د): «تبع».
[16] زيد في (د): «أنَّ». وليست في شرح المشكاة.
[17] في (د): «مأدبةً». وكذا في نسخة (ج)، وكتب على هامشها: «بخطه: مائدة». والمثبت موافق لسنن الترمذي (2860).
[18] في (ص) و(ع): «ما»، وكذا في سنن الترمذي.