إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أبي هريرة: بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب

          7273- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) العامريُّ الأويسيُّ الفقيه قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ) سبق في «باب المفاتيح في اليد» من «كتاب التَّعبير» [خ¦7013] «قال محمد: وبلغني أنَّ جوامع الكلم أنَّ الله تعالى يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تُكتَب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين، أو نحو ذلك»، وأنَّ في رواية أبي ذرٍّ: ”قال أبو عبد الله“ بدل قوله: ”محمَّدٌ“ فقيل: المراد البخاريُّ، وصوَّب(1) ورجَّح(2) الحافظ ابن حجرٍ: أنَّه محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريُّ، وأنَّ غير الزُّهريِّ جَزَمَ بأنَّ المراد بجوامع الكلم القرآنُ بقرينة قوله: «بُعِثت» والقرآن هو الغاية القصوى في إيجاز اللَّفظ واتِّساع المعاني، قد بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كلِّ مقول، أعجز بإعجازه فرسان البلاغة البارعة، وفرَّق بجوامع كلمه ذوي الألفاظ النَّاصعة، والكلمات الجامعة، وكانوا قد حاولوا الإتيان ببعض شيءٍ منه فما أطاقوه، وراموا ذلك فما استطاعوه؛ إذ رأَوه نظمًا عجيبًا خارجًا عن أساليب كلامهم، ورصفًا بديعًا مبايِنًا لقوانين بلاغتهم ونظامهم، فأيقنوا بالقصور عن معارضته، واستشعروا العجز عن مقابلته، ولمَّا سمع المغيرة بن الوليد من النَّبيِّ صلعم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} الاية[النحل:90] قال: والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أسفله لمغدِقٌ، وإنَّ أعلاه لمثمِرٌ. وسمع أعرابيٌّ رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}[الحجر:94] فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:179] وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ}[سبأ:51] وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34] وقوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي} الاية[هود:44] قال القاضي عياضٌ: إذا تأمَّلت هذه الآياتِ وأشباهها حقَّقت(3) إيجاز ألفاظها، وكثرة معانيها، وديباجة عبارتها، وحُسْن تأليف حروفها، وتلاؤم كَلِمِها، وأنَّ تحت كلِّ / لفظةٍ منها جُملًا كثيرة، وفُصولًا جمَّة، وعلومًا زواخر، مُلِئت الدَّواوين من بعض ما استُفيد منها، وكثُرت المقالات في المستَنْبَطات عنها. وقد حكى الأصمعيُّ أنَّه سمع كلام جاريةٍ، فقال لها: قاتلك الله! ما أفصحَك! فقالت: أيُعدُّ(4) هذا فصاحةً بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}[القصص:7] فجمع في آيةٍ واحدةٍ بين أمرين، ونَهْيين، وخبرين، وبِشارتين، ومن أمثلة جوامع كلمه صلعم الواردة في الأحاديث حديث: «كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» [خ¦2697] «وكلُّ شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ» [خ¦2168] و«ليس الخبر كالمعاينة» و«البلاء موكَّلٌ بالمنطق» و«أيُّ داءٍ أدوأ من البخل!» و«حبُّك الشَّيء يُعمي ويُصمُّ...» إلى غير ذلك ممَّا يعسر استقصاؤه، ويدلُّك على أنَّه صلعم قد حاز من الفصاحة وجوامع الكلم درجةً لا يرقاها غيره، وحاز مرتبةً لا يقدر فيها قدره، وفي كتابي «المواهب اللَّدُنيَّة»(5) من ذلك ما يشفي ويكفي، قال ابن المُنيِّر: ولم يَتَحدَّ نبيٌّ من الأنبياء بالفصاحة إلَّا نبيُّنا صلعم ؛ لأنَّ هذه الخصوصيَّة لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته ╕ في جوامع الكلم التي ليست من التِّلاوة ولكنَّها معدودةٌ من السُّنَّة(6) تُحُدِّي بها أم لا؟ وظاهر قوله: «أُوتيت جوامع الكلم» أنَّه من التَّحدُّث بنعمة الله وخصائصه، كقوله: (وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ) بضمِّ الرَّاء، أي: الخوف يُقذَف في قلوب أعدائي، زاد في «التَّيمُّم» [خ¦335] «مسيرة شهرٍ» وجعل الغاية مسيرة الشَّهر؛ لأنَّه لم يكن بين بلده وبين أحدٍ من أعدائه أكثر منه (وَبَيْنَا) بغير ميمٍ (أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي) رأيت نفسي (أُتِيتُ) بغير واوٍ بعد الهمزة، وفي «باب رؤيا اللَّيل» من «التَّعبير» [خ¦7037] بإثباتها (بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ) كخزائن كسرى أو معادن الذَّهب والفضَّة (فَوُضِعَتْ فِي يَدِي) بالإفراد(7)، حقيقة أو مجازًا، فيكون كنايةً عن وعد الله بما ذكر أنَّه يعطيه أمَّته.
          (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) بالسَّند السَّابق إليه: (فَقَدْ ذَهَبَ) أي: فتُوفِّي (رَسُولُ اللهِ صلعم وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا) بفوقيَّة مفتوحةٍ، فلامٍ ساكنةٍ، فغينٍ معجمةٍ مفتوحةٍ، فمثلَّثةٍ مضمومةٍ، وبعد الواو السَّاكنة نونٌ فهاءٌ، فألفٌ، من اللَّغيث بوزن «عظيمٍ»: طعامٌ مخلوطٌ بشعيرٍ، كذا في «المحكَم» عن ثعلب، أي: تأكلونها كيفما اتَّفق (أَوْ) قال: (تَرْغَثُونَهَا) «بالرَّاء» بدل: «اللَّام»، من الرَّغث، كنايةً عن العيش، وأصله: من رَغَثَ الجديُ أمَّه، إذا ارتضع منها، وأرغثته هي أرضعته، قاله القَزَّاز، والشَّكُّ من الرَّاوي، أي: وأنتم ترضعونها (أَوْ) قال (كَلِمَةً تُشْبِهُهَا) أي: تشبه إحدى الكلمتين المذكورتين، نحو ما سبق في «التَّعبير» [خ¦6698] «تنتثلونها» بالمثلَّثة وتاء الافتعال، أي: تستخرجونها.
          والحديث من أفراده.


[1] «وصوب»: ليس في (ص).
[2] «ورجَّح»: ليس في (ع).
[3] في (ع): «تحقَّقت».
[4] في (ب) و(س): «أَوَ تعدُّ»، والمثبت موافق للشفا.
[5] «اللدنية»: مثبتٌ من (ع).
[6] «السُّنَّة»: مثبتٌ من (ع)، وكذا هو في المواهب.
[7] «بالإفراد»: مثبتٌ من غير (ع).