إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد

          7235- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنَديُّ الجعفيُّ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ) الصَّنعانيُّ قاضيها قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابن راشدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلمٍ (عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بضمِّ العين وفتح الموحَّدة (اسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ) وسقط لفظ «اسمه» و«ابن أزهر» لأبي ذرٍّ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ) ولأبي ذرٍّ: ”عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله“ ( صلعم قَالَ: لَا يَتَمَنَّى) قال التُّوربشتيُّ: الياء المثنَّاة التَّحتيَّة في قوله: «لا يتمنَّى» مثبتةٌ في رسم الخطِّ في كتب الحديث، فلعلَّه نهيٌ ورد على صيغة الخبر والمراد منه لا يتمنَّ، فأُجري مُجرى الصَّحيح، ويُحتمَل أنَّ بعض الرُّواة أثبتها في الخطِّ، فروي على ذلك، وقال البيضاويُّ: هو نهيٌ أُخرِج في صورة النَّفي للتَّأكيد، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”لا يَتَمنَّيَنَّ“ (أَحَدُكُمُ المَوْتَ) زاد في رواية أنسٍ السَّابقة في «الطِّبِّ» [خ¦5671] «من ضرٍّ / أصابه» (إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ) خيرًا (وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ) بنصب «محسنًا» و«مسيئًا»، قال الزَّركشيُّ _تبعًا لابن مالكٍ حيث قال في «توضيحه»: تقديره إمَّا يكون محسنًا، وإمَّا يكون مسيئًا_: فحذف «يكون» مع اسمها مرَّتين وأبقى الخبر، وأكثر ما يكون ذلك بعد «أن» و«لو» كقوله:
انطقْ بحقٍّ وإن مستخرجًا إحنًا                      فإنَّ ذا الحقَّ غلَّابٌ وإن غُلبا
وكقوله:
علمتك(1) منَّانًا فلستُ بآملٍ                     نَدَاك ولو غَرثانَ ظمآنَ عاريا
وفي «لعلَّ» في هذين الموضعين شاهدٌ على مجيء «لعلَّ» للرَّجاء المجرَّد من التَّعليل، وأكثر مجيئها في الرَّجاء إذا كان معه تعليلٌ نحو {وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة:189] {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}[يوسف:46] ومعنى «يستعتب» يطلب العتبى، أي: الرِّضا عنه، وتعقَّبه في «المصابيح» فقال: اشتمل كلامه على أمرين ضعيفين قابلين للنِّزاع أمَّا الأوَّل: فجزمه بأنَّ كلًّا من قوله: «محسنًا» و«مسيئًا» خبرٌ لـ «يكون» محذوفةً مع احتمال أن يكونا حالين من فاعل «يتمنَّى» وهو «أحدكم» وعطف أحد الحالَين على الآخر، وأتى بعد كلِّ حالٍ بما ينبِّه على علَّة النَّهي عن تمنِّي الموت، والأصل لا يتمنَّى أحدكم الموت محسنًا أو مسيئًا(2) أي: سواءٌ كان على حالة الإحسان أو الإساءة، أمَّا إن كان محسنًا فلا يتمنَّى الموت لعلَّه يزداد إحسانًا على إحسانه، فيضاعف أجره وثوابه، وأمَّا إن كان مسيئًا فلا يتمنَّى أيضًا إذ لعلَّه يندم على إساءته ويطلب الرِّضا عنه، فيكون ذلك سببًا لمحو سيِّئاته التي اقترفها، وأمَّا الثَّاني: فادِّعاؤه أنَّ أكثر مجيء «لعلَّ» للتَّرجِّي المصحوب بالتَّعليل وهذا ممنوعٌ، وهذه كتب النُّحاة الأكابر طافحةٌ بالإعراض عن ذكر هذا القيد(3)، ولو سَلِم، فليس في هذا الحديث شاهدٌ على مجيئها للتَّرجِّي المجرَّد؛ لإمكان اعتبار التَّعليل معه، وقد فُهِمَت صحَّة اعتباره ممَّا قرَّرناه، فتأمَّله. انتهى.
          وقد سبق في «باب تمنِّي المريض الموت» من «الطِّبِّ» [خ¦5671] مزيدٌ على ما هنا، فليراجع، وفي الحديث: التَّصريح بكراهة تمنِّي الموت لضرٍّ نزل به من فاقةٍ أو محنةٍ بعدوٍّ ونحوه من مشاقِّ الدُّنيا، وأمَّا إذا خاف ضررًا أو فتنةً فلا كراهة فيه، وفي مناسبة الأحاديث الثَّلاثة للآية المسوقة قبلها غموضٌ إلَّا إن كان أراد أنَّ المكروه من التَّمنِّي هو جنس ما دلَّت عليه الآية وما دلَّ عليه الحديث، وحاصل ما في الآية الزَّجر عن الحسد، وحاصل ما في الحديث الحثُّ على الصَّبر؛ لأنَّ تمنِّي الموت غالبًا ينشأ عن وقوع أمرٍ يختار الذي يقع به المَوت على الحياة، فإذا نُهيَ عن تمنِّي الموت؛ كان(4) كأنَّه أمرٌ بالصَّبر على ما نزل به، ومجمع(5) الآية والحديث الحثُّ على الرِّضا بالقضاء، والتَّسليم لأمر الله تعالى، قاله في «فتح الباري».


[1] في (ص): «عليك»، وهو تحريفٌ.
[2] في (س): «إمَّا محسنًا، وإمَّا مسيئًا».
[3] في (ل): «القيل».
[4] «كان»: مثبتٌ من (ب) و(س)، وهي ثابتة في «الفتح».
[5] في (ص): «وتجمع»، وكذا في «الفتح».