إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي

          7169- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) بن قعنبٍ، أبو عبد الرَّحمن(1) الحارثيُّ القعنبيُّ (عَنْ مَالِكٍ) الإمام الأعظم(2) (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير (عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ) ولأبي ذرٍّ: ”بِنْت“ (أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ)‼ هندٍ أمِّ المؤمنين ( ♦ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: إِنَّمَا أَنَا) بالنِّسبة إلى الاطِّلاع(3) على بواطن(4) الخصوم (بَشَرٌ) لا بالنِّسبة إلى كلِّ شيءٍ، فإنَّ له صلعم أوصافًا أُخَر، والحصر مجازيٌّ؛ لأنَّه حصرٌ خاصٌّ، أي: باعتبار علم البواطن، ومعلومٌ أنَّه صلعم بشرٌ، وإنَّما قال ذلك توطئةً لقوله: (وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) بتشديد الياء، فلا أعلم بواطن أموركم؛ كما هو مقتضى أصل الخلقة البشريَّة (وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ) بالحاء المهملة: أبلغ في الإتيان (بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) وهو كاذبٌ (فَأَقْضِي) أي: له بسبب كونه ألحنَ بحجَّته (نَحْوَ مَا أَسْمَعُ) منه، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي: ”على نَحْوِ ما أسمع“ (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ) أي: المسلم، وكذا الذِّمِّيِّ، و«مَن» في قوله: «فمن قضيت» شرطيَّةٌ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”من حقِّ أخيه“ (شَيْئًا؛ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) أي: فإنَّما أقضي له بشيءٍ حرامٍ يؤول إلى النَّار؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء:10] وفيه: أنَّه ╕ لا يعلم بواطن الأمور إلَّا أن يُطْلِعَه الله على ذلك، وأنَّه يحكم بالظَّاهر، ولم يُطْلِعْه الله تعالى على حقيقة الأمر في ذلك حتَّى لا يحتاج إلى بيِّنةٍ ويمينٍ تعليمًا؛ لتقتدي به أمَّته، فإنَّه لو حكم في القضايا(5) بيقينه الحاصل من الغيب؛ لما أمكن الحكم لأمَّته من بعده، ولمَّا كان الحكم بعده ممَّا لا بدَّ منه؛ أجرى أحكامه على الظَّاهر، وأمر أمَّته بالاقتداء به، فإذا حكم بما يخالف الباطن؛ لا يجوز للمقضيِّ له(6) أخذ ما قُضِيَ له به، وفيه دلالةٌ على صحَّة مذهب مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد وجماهير علماء الأمصار أنَّ حكم الحاكم إنَّما ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، وأنَّه لا يُحِلُّ حرامًا، ولا يحرِّم حلالًا، بخلاف مذهب(7) أبي حنيفة حيث قال: إنَّ حكمه ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ، وسيكون لنا عودةٌ إلى مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في «باب من قُضِيَ له بحقِّ أخيه؛ فلا يأخذه» [خ¦7181] بعون الله سبحانه.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ، فينبغي للحاكم أن يَعِظَ الخصمين، ويحذِّرهما من الظُّلم وطلب الباطل؛ اقتداءً به صلعم ، قال في «الفتح»: وفي الحديث أنَّ التَّعمُّق(8) في البلاغة بحيث يحصل اقتدارُ صاحبها / على تزيين الباطل في صورة الحقِّ وعكسه مذمومٌ، ولو كان ذلك في التَّوصُّل إلى الحقِّ؛ لم يُذَمَّ، وإنَّما يُذَمُّ من ذلك ما يُتوصَّل به إلى الباطل في صورة الحقِّ فالبلاغة إذًا لا تُذَمُّ لذاتها، وإنَّما تُذَمُّ بحسب المتعلّق(9) الذي قد يُمدَح بسببه، وهي في حدِّ ذاتها ممدوحةٌ، وهذا كما يُذَمُّ صاحِبُها إذا طرأ عليه بسببها الإعجابُ وتحقير غيره ممَّن لم يصل إلى درجته، ولا سيَّما إن(10) كان الغير من أهل الصَّلاح؛ فإنَّ البلاغة إنَّما تُذَمُّ من هذه‼ الحيثيَّة بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجيَّة عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها، بل كلُّ فطنةٍ توصل إلى المطلوب محمودةٌ في حدِّ ذاتها، وقد تُذَمُّ أو تُمدَح بحسب متعلَّقها(11)، واختُلف في تعريف البلاغة؛ فقيل: أن يُبَلِّغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، وقيل: إيصال(12) المعنى إلى الغير بأحسن لفظٍ، أو هي الإيجاز مع الإفهام، والتَّصرُّف من غير إضمارٍ، أو هي قليلٌ لا يُبْهَم(13) وكثيرٌ لا يُسأَم، أو هي إجمال اللَّفظ واتِّساع المعنى، وقيل: هي النُّطق(14) في موضعه والسُّكوت في موضعه، وهذا كلُّه عن المتقدِّمين، وعرَّف أهل المعاني والبيان البلاغة: بأنَّها(15) مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة؛ وهي خلوُّه من التَّعقيد. انتهى(16).


[1] في (د): «عبد الله»، وفي نسخةٍ بالهامش كالمثبت.
[2] «الأعظم»: ليس في (د).
[3] في (ع): «للاطِّلاع».
[4] زيد في (ع): «الأمور».
[5] في (ع): «القضاء».
[6] «له»: سقط من (د).
[7] «مذهب»: مثبتٌ من (ع).
[8] في (د) و(ع): «التَّعميق».
[9] في غير (ب) و(س): «التعلق».
[10] في (د): «إذا».
[11] في (ص): «تعلَّقها».
[12] في (د): «إيصاله».
[13] في (ص): «يفهم»، ولا يصحُّ.
[14] في (ع): «المنطق»، وليس فيها: «هي».
[15] «بأنَّها»: ليس في (د).
[16] «انتهى»: مثبتٌ من (ص).