إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها

          7084- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيُّ قال: (حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الحافظُ أبو العباس، عالم أهل الشَّام قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ) عبد الرحمن بن يزيد(1) قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بضمِّ الموحَّدة وسكون السِّين المهملة وضمِّ العين (الحَضْرَمِيُّ) بفتح الحاء المهملة وسكون الضَّاد المعجمة: (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ) عائذ الله (الخَوْلَانِيَّ) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو (أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلعم / عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ) قال في «شرح المشكاة»: أي: الفتنة، ووهن عُرى الإسلام، واستيلاء الضَّلال، وفشوِّ البدعة (مَخَافَةَ) أي: لأجل مخافة (أَنْ يُدْرِكَنِي) وكلمة «أن» مصدريَّةٌ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ) من كفرٍ وقتلٍ ونهبٍ وإتيان فواحش (فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ) ببعثك وتشييد مباني الإسلام، وهدم قواعد الكفر والضَّلال (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ) الذي نحن فيه (مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ) صلعم : (نَعَمْ) قال حذيفة: (قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ) صلعم : (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) بفتح المهملة والمعجمة بعدها نونٌ، مصدر دخنت النَّار تدخَن؛ إذا أُلقي عليها حطبٌ رطبٌ؛ فإنَّه يكثر(2) دخانها وتفسد، أي: فسادٌ واختلافٌ، وفيه إشارةٌ إلى كدر(3) الحال، وأنَّ الخير الذي يكون بعد الشَّرِّ ليس خالصًا، بل فيه كدرٌ، قال حذيفة: (قُلْتُ): يا رسول الله (وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ) بفتح أوَّله (بِغَيْرِ هَدْيٍ) بتحتيَّةٍ واحدةٍ منوَّنةٍ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”هديي“ بزيادة ياء(4)الإضافة بعد الأخرى، أي: بغير سنَّتي وطريقتي (تَعْرِفُ مِنْهُمْ)(5) الخير؛ فتقبل، والشَّرَّ (وَتُنْكِرُ) وهو من المقابلة المعنويَّة، قال القاضي عياضٌ: المراد بالشَّرِّ الأوَّل: الفتن‼ التي وقعت بعد عثمان، وبالخير(6) الذي بعده: ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، وبالذين تعرف منهم وتُنكر: الأمراء بعده، فكان فيهم من يتمسَّك بالسُّنَّة والعدل، وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور، ويُحْتَملُ أن يُراد بالشَّرِّ: زمان قتل عثمان، وبالخير بعده؛ زمان خلافة عليٍّ ☺ ، والدَّخَن: الخوارج ونحوهم، والشَّرُّ بعده؛ زمان الذي يلعنونه على المنابر، وقيل: «وتنكر» خبرٌ بمعنى الأمر، أي: أنكروا عليهم صدور المُنكَر عنهم(7)، قال حذيفة: (قُلْتُ): يا رسول الله (فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ(8)؛ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) بضمِّ الدَّال من «دعاة» أي: جماعةٌ يدعون النَّاس إلى الضَّلالة، ويصدُّونهم عن الهدى بأنواعٍ من التَّلبيس، وأُطلِق عليهم ذلك باعتبار ما يؤول إليه حالهم؛ كما يُقال لمن أمر بفعلٍ محرَّمٍ: وقف على شفير جهنَّم (مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ) بالذَّال المعجمة (فِيهَا) في النَّار، قال حذيفة: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا) بكسر الجيم وسكون اللَّام: من أنفسنا وعشيرتنا (وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) أي: من العرب، وقيل: من بني آدم، وقيل: إنَّهم في الظَّاهر على ملَّتنا، وفي الباطن مخالفون (قُلْتُ): يا رسول الله (فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ) ╕ : (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) بكسر الهمزة: أميرهم، أي: وإن جَارَ، وعند مسلمٍ من طريق أبي الأسود(9) عن حذيفة: «تسمع وتطيع وإن ضُرِب ظهرك، وأُخِذَ مالك»، وعند الطَّبرانيِّ من رواية خالد بن سُبيعٍ: «فإن رأيت خليفةً؛ فالزمه وإن ضرب ظهرك» (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ) صلوات الله وسلامه عليه: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ) بفتح الفوقيَّة والعين المهملة والضَّاد المعجمة المشدَّدة، قال التُّوربشتيُّ: أي: تمسك بما يصبِّرك وتقوِّي به عزيمتك على اعتزالهم ولو بما لا يكاد يصحُّ أن يكون مُتمسَّكًا، وقال الطِّيبيُّ: هذا شرط تُعُقِّب(10) به الكلام؛ تتميمًا ومبالغةً، أي: اعتزلِ النَّاس اعتزالًا لا غاية بعده ولو قنعت فيه بعضِّ الشَّجرة(11) افعل؛ فإنَّه خيرٌ لك (حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) العضِّ، وهو كنايةٌ عن شدَّة المشقَّة؛ كقولهم: فلانٌ يعضُّ على الحجارة من شدَّة الألم، أو المراد: اللُّزوم؛ كقوله في الحديث الآخر: «عضُّوا عليها بالنَّواجذ»، والمراد _كما قال الطَّبريُّ_: من الخير لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته؛ خرج عن الجماعة، فإن لم يكن ثَّمَ إمامٌ وافترق النَّاس فِرَقًا؛ فليعتزلِ الجميع إن استطاع؛ خشية الوقوع في الشَّرِّ، وهل الأمر للنَّدب أو الإيجاب الذي لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه؟ لحديث ابن ماجه عن أنسٍ مرفوعًا: «إنَّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وإنَّ أمَّتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقةً، كلُّها في النَّار‼ إلَّا واحدةً؛ وهي الجماعة»، والجماعة التي أمر الشَّارع بلزومها جماعة أئمَّة العلماء؛ لأنَّ الله تعالى جعلهم حجَّةً على خلْقه، وإليهم تفزع العامَّة في أمر(12) دينها، وهم المعنيُّون بقوله: «إنَّ الله لن يجمع أمَّتي على ضلالةٍ»، وقال آخرون: هم جماعة الصَّحابة الذين قاموا بالدِّين وقوَّموا(13) عماده، وثبَّتوا أوتاده / ، وقال آخرون: هم جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمرٍ واجبٍ على أهل المِلل اتِّباعه، فإذا كان فيهم مخالفٌ منهم؛ فليسوا مجتمعين.
          والحديث سبق في «علامات النُّبوَّة» [خ¦3606]، وأخرجه مسلمٌ في «الفتن»، وكذا ابن ماجه.


[1] في (ع): «عبد الله بن الزُّبير»، وليس بصحيح.
[2] في (د) و(ص): «يكسر»، وهو تحريفٌ.
[3] في (ع): «تكدُّر».
[4] «ياء»: مثبت من (د) و(س).
[5] زيد في (د): «أي».
[6] في (ع): «الخير».
[7] في (ع): «منهم».
[8] «نعم»: ليس في (ص).
[9] في كل الأصول: «أبي الأسود» وهو وهم تبع فيه الفتح، إنما هو أبو سلام الأسود الحبشي. انظر حديثه في مسلم (1847)، وانظر تحفة الأشراف: (3/54).
[10] في (د): «يعقَّب».
[11] في (د): «الشجر».
[12] «أمر»: ليس في (د) و(ص) و(ع).
[13] في غير (د) و(س): «وفوَّقوا».