إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن

          7017- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَبَّاحٍ) بفتح الصاد المهملة والموحدة المشددة وبعد الألف مهملة، العطَّار البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) هو: ابنُ سليمان قال: (سَمِعْتُ عَوْفًا) بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة فاء، ابن أبي جَميل _بفتح الجيم_ الأعرابيَّ العبديَّ البصريَّ، أنَّه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ) بأن يعتدلَ ليله ونهاره وقت اعتدالِ الطَّبائع الأربع غالبًا، وانفتاق(1) الأزهار، وإدراك‼ الثِّمار (لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا المُؤْمِنِ) لكنَّ التَّقييد بالمؤمن يعكِّر على تأويلِ الاقتراب بالاعتدالِ؛ إذ لا يختصُّ(2) به المؤمن، وأيضًا الاقتراب يقتضِي التَّفاوتَ، والاعتدال يقتضِي عدمَهُ، فكيف يفسّر الأوَّل بالثَّاني؟ وصوَّب ابن بطَّال: أنَّ المراد باقتراب الزَّمان انتهاء دولته(3) إذا دنا قيام السَّاعة لما في التِّرمذيِّ من طريق مَعمر عن أيوب في هذا الحديث: «في آخر الزَّمانِ لم تكد(4) تكذب رؤيا المؤمن، وأصدقُهم رؤيا أصدقُهم حديثًا». قال: فعلى هذا فالمعنى: إذا اقتربت السَّاعة، وقُبض أكثرُ أهل العلم، ودرست معالم الدِّيانة بالهرجِ والفتنة، فكان النَّاس على مثل(5) الفترةِ محتاجين إلى مذكِّرٍ ومجدِّدٍ لمَا دُرِس من الدِّين، كما كانتِ الأمم تُذَكَّر بالأنبياء، فلمَّا كان نبيُّنا صلعم خاتم الأنبياء وما بعده من الزَّمان يشبهُ زمن(6) الفترة عُوِّضوا عن النُّبوَّة بالرُّؤيا الصَّالحة الصَّادقة الَّتي هي جزءٌ من أجزاء النُّبوَّة الآتيةِ بالبشارة والنَّذارةِ. وقيل: المراد بالاقتراب(7): نقص السَّاعات والأيَّام واللَّيالي بإسراعِ مرورها وذلك قرب السَّاعة. ففي مسلم: «يتقارب الزَّمان حتَّى تكون السَّنة كالشَّهر، والشَّهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالسَّاعة، والسَّاعة كاحتراق السَّعفة». قيل: يريد أنَّ ذلك يكون من خروج المهدي عند بسط العدلِ، وكثرة الأمن، وبسطِ الخير والرِّزق، فإنَّ ذلك الزَّمان يستقصرُ لاستلذاذِهِ، فتتقاربُ أطرافُه، وأشارَ ╕ بقولهِ: «لم تكدْ تكذب رؤيا المؤمن» إلى غلبة الصِّدق على الرُّؤيا لكنَّ الرَّاجح نفي الكذبِ عنها أصلًا؛ لأنَّ حرف النَّفي الدَّاخل على كادَ ينفِي قرب حصوله، والنَّافي لقربِ حصول الشَّيء أدلُّ على نفيهِ نفسه، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}[النور:40]، قاله في «شرح المشكاة». ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لم تكدْ رؤيا المؤمن تكذب“ بالتَّقديم والتَّأخير (وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ) بواو العطف على المرفوع السَّابق فهو مرفوعٌ أيضًا (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) أي: من علم النُّبوَّة (وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ) وهذا ثابتٌ لأبوي ذرٍّ والوقتِ والأَصيليِّ وابنِ عساكرَ، وظاهر إيرادهِ هنا أنَّه مرفوعٌ، لكن قال(8) في «الفتح»: إنَّ في «بغية النُّقَّاد» لابن المَوَّاق: أنَّ عبدَ الحقِّ أغفلَ التَّنبيه على أنَّ هذه الزِّيادة مدرجةٌ، وأنَّه لا شكَّ في إدراجها، فعلى هذا تكون من قولِ ابن سيرين لا مرفوعة.
          (قَالَ مُحَمَّدٌ) أي: ابنُ سيرين: (وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ) أي: الأمَّة أيضًا رؤياها صادقةٌ كلُّها صالحها وفاجرها، فيكون من صدق رؤياهم (قَالَ) ابن سيرين _بالسَّند السَّابق_: (وَكَانَ يُقَالُ) القائلُ هو(9) أبو هريرة: (الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ) وأخرجه التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ من طريق سعيدِ بن أبي عَرُوبة عن قتادةَ عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسولُ‼ الله صلعم : «الرُّؤيا ثلاث» (حَدِيثُ النَّفْسِ) وهو ما كان في اليقظةِ، كمن يكون في أمرٍ أو عشقِ صورةٍ فيرى ما يتعلَّق به في اليقظةِ من ذلك الأمر، أو معشوقهِ(10) في المنام، وهذه(11) لا اعتبار لها في التَّعبير كاللَّاحقةِ، و(12)هي المذكورة في قولهِ: (وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ) وهو الحُلمُ المكروهُ بأن يريه ما يحزنُه، وله مكايدُ يُحزن بها بني آدم، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}[المجادلة:10] ومن لعب الشَّيطانِ به الاحتلام الموجب للغسلِ (وَبُشْرَى مِنَ اللهِ) يأتيهِ بها ملك الرُّؤيا من نسخةِ أمِّ الكتاب (فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ) في منامهِ (فَلَا يَقُصُّهُ عَلَى أَحَدٍ) بضم الصاد / المهملة المشددة (وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ) وفي «باب الحلم من الشيطان»: «فليبصقِ عن يسارهِ، وليستعذْ(13) باللهِ منه فلن يضرَّه» [خ¦7005] قال القرطبيُّ: والصَّلاةُ تجمعُ البصقِ عند المضمضةِ، والتَّعوُّذ قبل القراءة. وعند ابن ماجه بسند حسنٍ عن خبَّاب بن مالك مرفوعًا: «الرُّؤيا ثلاثٌ: منها(14) أهاويلُ من الشَّيطان ليحزُنَ ابنَ آدم، ومنها ما يهتمُّ به الرَّجل في يقظتهِ فيراهُ في منامه، ومنها جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوَّة».
          (قَالَ) ابن سيرين: (وَكَانَ) أبو هريرة ☺ (يَكْرَهُ الغُلَّ فِي النَّوْمِ) ولغير أبي ذرٍّ: ”يُكره“ بضم أوَّله مبنيًّا للمفعولِ: ”الغُلُّ“ بالرفع مفعولٌ ناب عن فاعله، والغُلُّ _بضم المعجمة_ الحديدةُ تجعلُ في العنق، وهو من صفاتِ أهل النَّار قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}[غافر:71] (وَكَانَ يُعْجِبُهُمُ القَيْدُ) بلفظ الجمعِ، وبالإفراد في قولهِ: «يَكْره الغلَّ». قال في «شرح المشكاة»: قوله: قال(15): «وكان يكرهُ الغُلَّ» يحتملُ أن يكون مقولًا(16) للراوي عن ابن سيرين(17) فيكون اسم كان ضميرُ ابن سيرين، وأن يكون(18) مقولًا لابن سيرين فاسمه ضميرُ رسول الله(19) صلعم أو أبي هريرة. وقوله: «وكان يعجبُهم» ضميرُ المعبِّرين، وكذا قوله: (وَيُقَالُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي: ”وقال“: (القَيْدُ) يراه الشَّخصُ في رجلهِ (ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ) من أقوالِ المعبِّرين، ولفظ بعضِهم: القيدُ ثباتٌ في الأمرِ الَّذي يراه الرَّائي بحسبِ من يَرى ذلك له.
          (وَرَوَى(20) قَتَادَةُ) بن دِعَامة ممَّا وصله مسلمٌ والنَّسائيُّ من رواية هشامٍ الدَّستوائيِّ عن أبيه عن قتادة (وَيُونُسُ) بن عُبيد(21) أحدُ أئمَّة البصرةِ، فيما وصله البزَّار في(22) «مسنده» (وَهِشَامٌ) هو: ابنُ حسَّان الأزديُّ فيما وصلَه الإمام أحمدُ (وَأَبُو هِلَالٍ) محمَّد بن سُليم _بضم السين_ الراسبيُّ، أربعتُهم، أصلَ الحديث (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم وَأَدْرَجَهُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”وأدرج“ أي: جعل (بَعْضُهُمْ كُلَّهُ) أي: كلَّ(23) المذكورِ من قولهِ: «الرُّؤيا ثلاث...» إلى: «في الدِّين» (فِي الحَدِيثِ) مرفوعًا. قال البخاريُّ: (وَحَدِيثُ عَوْفٍ) الأعرابيِّ (أَبْيَنُ) أي: أظهرُ حيثُ فصَلَ المرفوع من الموقوفِ، ولا سيَّما تصريحه بقولِ ابن سيرين «وأنا أقول هذه» فإنَّه دالٌّ على الاختصاصِ بخلافِ ما قالَ فيه: وكان يُقال، فإنَّ فيها الاحتمال‼ بخلافِ أوَّل الحديث، فإنَّه صرَّح برفعه.
          (وَقَالَ يُونُسُ) بن عُبيد: (لَا أَحْسِبُهُ) أي: لا أحسب الَّذي أدرجه بعضُهم (إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِي القَيْدِ) يعني: أنَّه شكَّ في رفعهِ. قال القرطبيُّ: هذا الحديثُ وإن اختُلف في رفعهِ ووقفهِ(24) فإنَّ مَعناه صحيحٌ؛ لأنَّ القيدَ في الرِّجلين تثبيتٌ للمقيَّد في مكانهِ، فإذا رآهُ من هو على(25) حالةٍ كان ذلك ثبوتًا على تلك الحالةِ، وأمَّا كراهة الغُلِّ فلأنَّ محلَّه الأعناق نكالًا وعقوبةً وقهرًا وإذلالًا، وقد يُسحَب على وجههِ، ويجرُّ على قفاه فهو مذمومٌ شرعًا، وغالبُ رؤيتهِ في العُنق دليلٌ على وقوع حالةٍ(26) سيِّئة للرَّائي تلازمُه ولا تنفكُّ عنه، وقد يكون ذلكَ في دينهِ كواجباتٍ فرَّط فيها، أو معاصٍ ارتكبَهَا، أو حقوقٍ لازمةٍ له لم يوفها أهلَها مع قدرتهِ، وقد يكونُ في دُنياه لشدَّةٍ تعتريهِ أو تلازمُه.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ ☼ ردًّا على من قال كأبي عليٍّ القالي(27) وصاحب «المحكم»: الغُلُّ يجعلُ في العنقِ أو اليد، ويدٌ مغلولةٌ جُعِلت في العُنق: (لَا تَكُونُ الأَغْلَالُ إِلَّا فِي الأَعْنَاقِ) وهذا فيهِ نظرٌ فليُتأمل، و(28)قول البخاريِّ هذا ثابتٌ في رواية أبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ.


[1] في (ص): «انعقاد».
[2] في (د): «فإن الوقت الذي تعدل فيه الطبائع لا يختص».
[3] في (ع): «ما»، وفي (د): «مدته».
[4] قوله: «تكد» زيادة من المصدر.
[5] في (ص) زيادة: «هذه».
[6] في (د): «زمان».
[7] في (ص) و(د): «بالتقارب»، وفي (ع): «بالتفاوت».
[8] «قال»: ليست في (د).
[9] «هو»: ليست في (د).
[10] في (ص): «ويشوفه».
[11] في (د): «هذه».
[12] «و»: ليست في (ع) و(ص).
[13] في (د): «وليتعوذ».
[14] في (س): «الرؤيا يلابسها».
[15] «قال»: ليست في (د).
[16] في (ص): «مفعولًا».
[17] في (د): «لراوي ابن سيرين».
[18] «مقولًا للراوي ابن سيرين فيكون اسم كان ضمير ابن سيرين، وأن يكون»: ليست في (ع).
[19] في (س): «الرسول».
[20] في (د): «ورواه».
[21] في (ص): «عُيينة» وهو خطأ.
[22] في (د): «من».
[23] «كل»: ليست في (ع).
[24] «ووقفه»: ليست في (ص).
[25] في (د): «على من هو».
[26] في (د): «حال».
[27] في (ع) و(ص) و(د): «العالي».
[28] في (ع) و(ص) و(د): «مع».