إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: تأتون بالبينة على من قتله

          6898- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) الفضلُ بن دُكين قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ) أبو الهذيل الطَّائيُّ الكوفيُّ (عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ) بضم الموحدة وفتح المعجمة، ويسار بالتحتية وتخفيف المهملة، المدنيِّ أنَّه (زَعَمَ: أَنَّ رَجُلًا) أي: قال: إنَّ رجلًا (مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة، وهو _كما قال المزيُّ_ سهلُ بن عبد الله بنِ أبي حَثْمة، واسمُ أبي حثمةَ عامرُ بن ساعدةَ الأنصاريُّ، وعند مسلمٍ من طريقِ ابن نُمير عن سعيدِ ابن بشير عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاريِّ أنَّه (أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ) اسم جمعٍ يقعُ على جماعة الرِّجال خاصَّةً من الثَّلاثة إلى‼ العشرة لا واحد له من لفظهِ، والمراد بهم هنا: مُحَيِّصة _بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة_ وأخوه(1) حُوَيِّصة _بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة(2)_ ولدا مسعود، وعبد الله وعبد الرَّحمن ولدا سهل (انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ) وفي رواية ابنِ إسحاق عندَ ابنِ أبي عاصم: فخرج عبدُ الله بن سهل في أصحابٍ له يمتارون تمرًا، زاد سليمانُ بن بلال _عند مسلم_: في زمنِ رسولِ الله صلعم ، وهي يومئذٍ صلحٌ وأهلها يهود... الحديثَ. والمراد: أنَّ ذلك وقعَ بعد فتحها (فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا) بالواو، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فوجدوا“ (أَحَدَهُمْ قَتِيلًا) هو: عبدُ الله بن سهل، وفي رواية بشر بن المفضل السَّابقة في «الجزية» [خ¦3173] فأتى مُحَيِّصة إلى عبد الله بن سهلٍ وهو يتشحَّط في دمهِ قتيلًا فدفنه (وَقَالُوا) أي: النَّفر (لِلَّذِي) أي: لأهل خيبر الَّذين (وُجِدَ) بضم الواو وكسر الجيم (فِيهِمْ) عبد الله بن سهل قتيلًا: (قَتَلْتُمْ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي: ”قَد قتلتُم“ (صَاحِبَنَا) وقوله: «للَّذي» بحذف النون، فهو كقولهِ تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ}[التوبة:69] (قَالُوا(3)) أي: أهلُ خيبر: (مَا قَتَلْنَا) صاحبكم (وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا) له (فَانْطَلَقُوا) أي: عبدُ الرَّحمن بن سهل وحُوَيِّصة ومُحَيِّصة ابنا مسعود (إِلَى النَّبِيِّ) ولأبي ذرٍّ: ”رسول الله“ ( صلعم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا) فيها (قَتِيلًا) وفي «الأحكام» [خ¦7192] وأقبل _أي: مُحَيِّصة_ هو وأخوه حُوَيِّصة وهو أكبرُ منه وعبد الرَّحمن بن سهل فذهب ليتكلَّم، وهو الَّذي كان بخيبر، وفي رواية يحيى بنِ سعيد [خ¦6142]: فبدأ عبد الرَّحمن يتكلَّم وكان أصغرَ القوم، وزاد حمَّادُ بن زيد عن يحيى _عند مسلم_: في أمرِ أخيه (فَقَالَ) صلعم : (الكُبْرَ الكُبْرَ) بضم الكاف وسكون الموحدة والنصب فيهما على الإغراء، وفي رواية اللَّيث _عند مسلمٍ_: فسكتَ وتكلَّم صاحباهُ. وتكريرُ الكبر للتَّأكيد، أي: ليبدأ الأكبرُ بالكلامِ، أو قدِّموا الأكبر إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأسنِّ، وحقيقةُ الدَّعوى إنَّما هي لعبد الرَّحمن أخي القتيلِ لا حقَّ فيها لابنَي(4) عمِّه، وإنَّما أمر صلعم أن يتكلَّم الأكبرُ وهو حويِّصة؛ لأنَّه لم يكنِ المراد / بكلامهِ حقيقة الدَّعوى بل سماع صورة القصَّة، وعند الدَّعوى يدَّعي المستحقُّ، أو المعنى: ليكن الكبير وكيلًا له (فَقَالَ) صلعم (لَهُمْ) أي: للثَّلاثة: (تَأْتُونَ) بفتح النون من غير تحتية، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”تأتوني“ (بِالبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ) وعند النَّسائيِّ من طريق عُبيد الله بن الأخنس عن عَمرو بن شُعيب عن أبيهِ عن جدِّه: أنَّ ابن مُحَيِّصة الأصغر أصبحَ قتيلًا على أبوابِ خيبر‼، فقال رسول الله صلعم : «أقمْ شاهدينَ على قتلِهِ أدفعهُ إليكَ برمَّتِه» قال: يا رسول الله أنّى أُصيبُ شاهدين وإنَّما أصبحَ قتيلًا على أبوابهِم؟ وقولُ بعضِهم: إنَّ ذكر البيِّنة وهمٌ؛ لأنَّه صلعم قد علم أنَّ خيبر حينئذٍ لم يكن بها أحدٌ من المسلمين. أُجيب عنه بأنَّه وإن سُلِّم أنَّه لم يسكنْ مع اليهود فيها من المسلمينِ أحدٌ لكن في القصَّة: أنَّ جماعةً من المسلمين خرجُوا يمتارونَ تمرًا، فيجوز أن تكون طائفةٌ أخرى خرجوا لمثلِ ذلك، فإن قلتَ: كيف عرضت اليمين على الثَّلاثة والوارثُ هو عبد الرَّحمن خاصَّةً واليمين عليه؟ أُجيب بأنَّه إنَّما أطلق الجواب؛ لأنَّه غير ملبسٍ أنَّ المراد به الوارث، فكما(5) سمع كلام الجميعِ في صورةِ القتلِ وكيفيَّتهِ، وكذلك أجابهم الجميع (قَالَ) صلعم : (فَيَحْلِفُونَ) أي: اليهود أنَّهم ما قتلوهُ، وفي رواية ابنِ عُيينة عن يحيى: «تبرئكُم يهودُ بخمسين يحلفون» أي: يخلِّصُونكم من الأيمانِ بأنْ تحلِّفوهم، فإذا حلفوا انتهتِ الخُصُومة، فلم يجبْ عليهم شيءٌ، وخُلِّصتُم أنتم من الأيمان، وفيه البداءة بالمدَّعى عليهم (قَالُوا): يا رسول الله (لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ اليَهُودِ) وفي رواية يحيى [خ¦6142]: «أتحلفُونَ وتستحقُّونَ قاتلكُم أو صاحبَكُم بأيمانِ خمسينَ منكم» فيحتملُ أنَّه صلعم طلب البيِّنة أوَّلًا فلم يكن لهم بيِّنة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرضَ عليهم تحليفَ المدَّعى عليهم فأبوا، وقد سقط من رواية حديث الباب تبدئة المدَّعين باليمين، واشتملتْ رواية يحيى بن سعيد على زيادةٍ من ثقةٍ حافظٍ فوجبَ قَبولها، وهي تقضِي على من لم يعرفْها، وإلى البداءة بالمدَّعين ذهب الشَّافعيُّ وأحمد(6)، فإن أبوا ردَّت على المدَّعى عليهم، وقال بعكسه أهل الكوفة وكثيرٌ من(7) البصرة (فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ) بضم أوَّله وكسر الطاء، من أبطل، أي: كره أن يُهدر دمه (فَوَدَاهُ) بلا همزٍ مع التخفيف (مِئَةً) وللكُشمِيهنيِّ: ”بمئة“ (مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) وفي رواية يحيى بن سعيد: «من عنده» [خ¦3173] فيحتملُ أن يكون اشتراها من إبلِ الصَّدقة بمالٍ(8) دفعهُ من عنده، أو المراد بقولهِ: «من عندِه» أي: من بيتِ المالِ المرصد للمصالح، وأُطلق عليه صدقة باعتبارِ الانتفاعِ به مجَّانًا لما في ذلك من قطعِ المنازعة، وإصلاحِ ذات البين. قال أبو العباس القرطبيُّ: ورواية من قال: «من عنده»، أصحُّ من رواية من قال: «من إبل الصَّدقة»، وقد قيل: إنَّها غلطٌ، والأولى أن(9) لا يُغلط الرَّاوي ما أمكنَ، فيحتملُ أنَّه صلعم تسلَّف ذلك من إبلِ الصَّدقة؛ ليدفعه من مالِ الفيء.
          وفي الحديث مشروعيَّة القَسَامة، وبه أخذ‼ كافة الأئمَّة والسَّلف من الصَّحابة والتَّابعين وعلماء الأمَّة كمالكٍ والشَّافعيِّ في أحدِ قوليهِ وأحمد، وعن طائفةٍ التَّوقُّف في ذلك، فلم يروا القسامَةَ ولا أثبتوا لها في الشَّرع حكمًا، وإليه نحا البخاريُّ.
          قال(10) العينيُّ: ذكر الحديث مطابقًا لما قبله في عدمِ القَوَد في القَسَامة، وأنَّ الحكم فيها مقصورٌ على البيِّنة واليمين، كما في حديثِ الأشعث.
          والحديث سبقَ في «الصُّلح» [خ¦2702] و«الجزيةِ» [خ¦3173].


[1] «وأخوه»: ليست في (د).
[2] «بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة»: ليست في (د).
[3] في (ع): «فقالوا».
[4] في (د): «لبني».
[5] في (ب) و(د): «فلما».
[6] في (د) زيادة: «وكذا مالك».
[7] في (ع) زيادة: «أهل».
[8] في (د): «بما».
[9] في (د): «أنه».
[10] في (د): «وقال».