إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله

          6780- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) بضم الموحدة، ويحيى هو ابنُ عبدِ الله بنِ بكير المصريُّ المخزوميُّ(1) قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (اللَّيْثُ) بنُ سعدٍ الإمام (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد أيضًا (خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) البجليُّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ) بكسر العين، اللَّيثيِّ المدنيِّ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ) أسلم الحبشيِّ، مولى عمر بن الخطَّاب (عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ) ☺ (أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: زمنهِ (كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا) باسم الحيوان المعروف (وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلعم ) بضم التحتية وسكون الضاد المعجمة وكسر المهملة، بأن يفعلَ أو يقول في حضرته المقدَّسة ما يَضْحكُ منه، وعند أبي يَعلى من طريق هشامِ بنِ سعد، عن زيد بن أسلم _بسند الباب_: «أنَّ رجلًا كان يلقَّب حِمَارًا وكان يهدِي لرسول(2) الله صلعم العكَّة من السَّمن والعسلِ، فإذا جاء صاحبُه يتقاضاهُ جاء به إلى النَّبيِّ صلعم ، فقال: أعطِ هذا متاعَهُ، فما يزيدُ النَّبيُّ صلعم على(3) أن يتبسَّمَ ويأمر به فيُعطى» وفي حديث محمد(4) بن عَمرو بن حزمٍ: وكان لا يدخلُ المدينةَ طَرْفَةً إلَّا اشترى منها، ثمَّ جاءَ فقال: يا رسولَ الله هذا أهديتهُ لك، فإذا جاءَ صاحبه يطلبُ ثمنَه جاء به(5). فقال: أعطِ هذا الثَّمنَ. فيقول: «ألم تُهدهِ لي» فيقول: ليس عندِي، فيضحَكُ ويأمرُ لصاحبهِ بثمنهِ. قال: وقد وقعَ‼ نحو(6) هذا لنُعَيمان(7) فيما ذكره الزُّبير بن بكَّار في «كتاب الفكاهة والمزاح».
          (وَكَانَ النَّبِيُّ صلعم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ) أي: بسببِ شربه الشَّراب المُسْكِر (فَأُتِيَ) بضم الهمزة (بِهِ يَوْمًا) وقد شربَ المسكر، وكان في غزوةِ خيبر، كما قاله(8) / الواقديُّ (فَأَمَرَ) صلعم (بِهِ فَجُلِدَ) وللواقديِّ: ”فأمرَ به فخُفق بالنِّعال“ وحينئذٍ فيكون معنى «فجُلِد» أي: ضُرِبَ ضربًا أصاب جِلْدَه (فَقَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”قالَ“ (رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ) وعند الواقديِّ: فقال عمر ☺ : (اللَّهُمَّ العَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ) بضم التحتية وفتح الفوقية، «وما» مصدريَّة، أي: ما أكثرَ إتيانهِ، وللواقديِّ: ما أكثرَ ما يُضرب. وفي رواية مَعمر: ما أكثرَ ما يشربُ، وما أكثَرَ ما يجلدُ(9) (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ) أي: الَّذي علمتُ (أَنَّهُ) بفتح همزة «أنَّ» واسمها الضَّمير، وخبرها: (يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) و«أنَّ» مع اسمها وخبرها سدَّ مسدَّ مفعولي «علمتُ» لكونه مشتملًا على المنسوبِ والمنسوبِ إليه، والضَّمير في «أنَّه» يعود إلى الموصول، والموصول مع صلتهِ خبر مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هو الَّذي «علمت» والجملة جواب القسم، قاله المظهريُّ.
          قال الطِّيبيُّ: وفيه تعسُّفٌ، وقال صاحب «المطالع»: «ما» موصولة، و«إنَّه» بكسر الهمزة مبتدأ، وقيل بفتحها وهو مفعول «علمتُ» قال الطِّيبيُّ: فعلى هذا «علمتُ» بمعنى: عرفتُ، و«أنَّه» خبر الموصول. قال: وجَعْلُ «مَا» نافيةً أظهرُ لاقتضاءِ القسم أن يُتَلقَّى بحرف النَّفي وبأنَّ وباللَّام(10) بخلافِ الموصول، ولأنَّ الجملة القسميَّة جيءَ بها مؤكِّدةً لمعنى النَّهي مقرِّرةً للإنكار.
          ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”إلَّا أنَّه“ بزيادة «إلَّا» وفتح همزة(11) «أنَّه» ولأبي ذرٍّ: ”إنَّه“ بكسر الهمزة، ورواية الكُشمِيهنيِّ مؤيِّدة لقول الطِّيبي: إن جعل(12) «ما» نافية... إلى آخره كما قال بعد ذلك، ويؤيِّده أنَّه وقع في «شرح السُّنة»: «فوالله ما علمت إلَّا أنَّه» وفي رواية الواقديِّ: «فإنَّه يحبُّ الله ورسوله»، ولا إشكالَ فيها لأنَّها جاءت تعليلًا لقولهِ: «لا تفعلْ».
          وفي الحديث الرَّدُّ على من زعم أنَّ مرتكبَ الكبيرة كافرٌ لثبوت النَّهي عن لعنهِ(13)، وأنَّه لا تنافي بين ارتكاب النَّهي وثبوت محبَّة الله ورسوله في قلبِ المُرتكب؛ لأنَّه صلعم أخبر أنَّ المذكور يحبُّ الله ورسولَه مع ما صدرَ(14) منه.
          وكراهةُ لعن شاربِ الخمر، وقيل: المنعُ في حقِّ من أقيمَ عليه الحدُّ؛ لأنَّ الحدَّ كفَّر عنه الذَّنب، وقيل: المنع مطلقًا في حقِّ ذي الزَّلَّة، والجوازُ مطلقًا في حقِّ المجاهرين، وصوَّبَ ابن المُنَيِّر: أنَّ المنع مطلقًا في حقِّ المعيَّن، والجواز في حقِّ غير المعيَّن(15)؛ لأنَّه في حقِّ غير المعيَّن(16) زجر عن تعاطِي ذلك الفعل. واحتجَّ الإمامُ البلقينيُّ على جواز لعن المعيَّن بالحديثِ الوارد في المرأةِ إذا دعاهَا زوجُها إلى فراشهِ فأبت لعنتْها الملائكةُ حتَّى تصبحَ، وتعقَّبه بعضهُم بأنَّ اللَّاعن لها الملائكة، فيتوقَّف الاستدلالُ‼ به على جوازِ التَّأسِّي بهم، ولئن سلَّمنا فليس في الحديثِ تسميتها، وأُجيب بأنَّ الملك معصومٌ، والتَّأسي بالمعصوم مشروعٌ.
          والحديثُ من أفرادهِ.


[1] في (ع) و(د): «المخزومي البصريُّ».
[2] في (د): «إلى رسول».
[3] «على»: ليست في (د).
[4] في غير (د): «عبد الله» والمثبت هو الصواب.
[5] قوله: «جاء به» زيادة من الفتح.
[6] في (ص): «مثل».
[7] في (ع) و(ص): «للنعمان»، وفي (د): «للنعيمان».
[8] في (ع): «ذكره».
[9] «وما أكثر ما يجلد»: ليست في (د).
[10] في (ع): «اللام».
[11] في (ع): «الهمزة في».
[12] في (س) و(ص): «جعلت».
[13] في (د): «اللعن عن نهيه».
[14] في (ع): «يصدر».
[15] في (د): «المعنى».
[16] «لأنه في حق غير المعين»: ليست في (د).