إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

فاتحة الكتاب

          ♪(1)
          يقولُ أحمد بن محمَّدٍ الخطيبُ القسطلانيُّ غفر الله تعالى(2) له ولوالديه ولجميع المسلمين:
          الحمد لله الذي شرح بمعارف عوارف السُّنَّة النَّبويَّة صدور أوليائه، وروَّح بسماع أحاديثها الطَّيِّبة أرواح أهل وداده وأصفيائه، فسرَّح سِرَّ سرائرهم في رياض روضة قُدسه وثنائه، أحمده على ما وفَّق من إرشاده وأسدى من آلائه، وأشكره على فضله المتواتر الكامل الوافر، وأسأله المزيد من عطائه وكشف غطائه، وأشهد أنْ لا إله إِلَّا اللهُ وحدَه لا شريك له، الفرد المنفرد في صمدانيَّته بعزِّ كبريائه، واصلُ من انقطع إليه إلى حضرة قربه وولائه، ومدرجُه في سلسلة خاصَّته وأحبابه(3)، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، المُرسَلَُ♣ بصحيح القول وحَسَنِهِ؛ رحمةً لأهل أرضه وسمائه، الماحي للمختلَق الموضوع بشوارق بوارق لألائه، فأشرقت مشكاة مصابيح «الجامع الصَّحيح» من أنوار شريعته وأنبائه، صلى اللهُ عليه وسلَّم وعلى آله وأصحابه وخلفائه(4)، آمين(5).
          وبعدُ:
          فإنَّ علم السُّنَّة النَّبويَّة بعد الكتاب العزيز أعظم العلوم قدرًا، وأرقاها شرفًا وفخرًا؛ إذ عليه مبنى قواعد أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة، وبه تظهر تفاصيل مُجمَلات الآيات القرآنيَّة، وكيف لا ومصدره عمَّن لا ينطق عن الهوى، إن هو إلَّا وحيٌ يُوحَى.
          فهو المفسِّر للكتاب، وإنَّما نطق النَّبيُّ لنا به عن ربِّه، وإنَّ كتاب البخاريِّ «الجامع» قد
          أظهر من كنوز مطالبها العالية إبريز البلاغة وأبرز، وحاز قَصَبَ السَّبق في ميدان البراعة وأحرز(6)، وأتى من صحيح الحديث وفقهه بما لم يُسبَق إليه، ولا عرَّج أحدٌ عليه، فانفرد بكثرة فرائد فوائده، وزوائد عوائده، حتَّى جزم الرَّاوون بعذوبة موارده؛ فلذا رَجَحَ على غيره
من الكتب بعد كتاب الله، وتحرَّكت بالثَّناء عليه الألسن والشِّفاه، ولطالما خطر في الخاطر المخاطر أنْ أُعلِّق عليه شرحًا أَمزجه فيه مزجًا، وأدرجه ضمنه درجًا، أُميِّز فيه الأصل من الشَّرح بالحمرة والمداد، واختلاف الرِّوايات بغيرهما، ليدرِك النَّاظر سريعًا المراد، فيكون باديًا بالصَّفحة، مدركًا باللَّمحة، كاشفًا بعض أسراره لطالبيه، رافع النِّقاب عن وجوه معانيه / لمعانيه، موضِّحًا مُشكِلَه، فاتحًا مُقفَلَه، مقيِّدًا مهملَه، وافيًا بتغليق(7) تعليقه، كافيًا في إرشاد السَّاري لطريق تحقيقه، محرِّرًا لرواياته، مُعْرِبًا عن غرائبه وخفيَّاته، فأَجِدُني أُحجم عن سلوك هذا المسرى، وأُبصِرُني أقدِّم رجلًا وأؤخِّر أخرى؛ إذ أنا بمَعْزِلٍ عن هذا المنزل، لا سيَّما وقد قِيلَ: إنَّ أحدًا لم يستصبح سراجَه، ولا استوضح منهاجَه، ولا اقتعد صهوتَه، ولا افترع ذروتَه، ولا تبوَّأ خلالَه، ولا تفيَّأ ظلالَه، فهو دُرَّةٌ لم تُثْقَب، ومُهرةٌ لم تُركَب، وللَّه درُّ القائل:
أعيا فحولَ العلم حَلُّ رموز ما                     أبداه في الأبوابِ من أسرارِ
فازوا من الأوراقِ منه بما جَنَوا                     منها، ولم يَصِلوا إلى الأثمار‼
ما زال بِكرًا لم يُفَضَّ خِتامُه                     وعُراه ما حُلَّت عنِ(8) الأزرارِ
حُجِبَت معانيه التي أوراقُها                     ضُرِبَت على الأبواب كالأستار
مِن كلِّ بابٍ حين يُفتَح بعضُه                     يَنْهار منه العلمُ كالأنهارِ
لا غَرْوَ أن أمسى البخاريْ للورى                     مثلَ البحارِ لمنشأ الأمطارِ
خضعتْ له الأقرانُ فيه إذ بدا                     خرُّوا على الأذقان والأكوارِ
ولم أَزَلْ على ذلك مدَّةً من الزَّمان، حتَّى مضى عصر الشَّباب وبان، فانبعث الباعث إلى ذلك راغبًا، وقام خطيبًا لبنات أبكار الأفكار خاطبًا، فشمَّرتُ ذيل العزم عن ساق الحزم، وأتيتُ بيوت التَّصنيف من أبوابها، وقمتُ في جامع جوامع التَّأليف بين أئمَّته بمحرابها، وأطلقتُ لسان القلم في ساحات الحِكَم بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ، وإشارةٍ قريبةٍ لائحةٍ، لخَّصتُها من كلامِ الكُبَرَاء، الذين رَقَتْ في معارج علوم هذا الشَّأن أفكارُهم، وإشاراتِ الألبَّاء الذين أنفقوا على اقتناص شوارده أعمارَهم، وبذلتُ الجهد في تفهُّم أقاويل الفهماء(9) المشار إليهم بالبنان، وممارسة الدَّواوين المؤلَّفة في هذا الشَّان، ومراجعة الشُّيوخ الذين حازوا قَصَبَ السَّبق في مضماره، ومباحثة الحذَّاق الذين غاصوا على جواهر الفرائد(10) في بحاره، ولم أتحاشَ عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن، قصدًا لنفع الخاصِّ والعامِّ، راجيًا ثواب ذي الطَّوْل والإنعام.
          فدونَك شرحًا قد أشرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء نوره اللَّامع، وصدع خطيبه على منبره السَّامي بالحجج القواطع القلوب والمسامع، أضاءت بهجته، فاختفت منه كواكب الدَّراري، وكيف لا وقد فاض عليه النُّور من فتح الباري! على أنَّني أقول كما قال الحافظ أبو بكرٍ البَرقانيُّ:
وما ليَ فيهِ سوى أنَّنيأَُ                     ر♣اه هوًى وافق المقصدا
وأرجو الثَّواب بكتب الصَّلاةِ                     على السَّيِّد المُصطفَى أحمدا
          وبالجملة: فإنَّما أنا من لوامع أنوارهم مقتبِسٌ، ومن فواضل فضائلهم ملتمِسٌ، وخدمت به الأبواب النَّبويَّة، والحضرة المُصطَفويَّة، راجيًا أن يُتوِّجني بتاج القبول والإقبال، ويجيزني بجائزة الرِّضا في الحال والمآل، وسمَّيته:
          «إرشاد السَّاري لشرح صحيح البخاري»
          واللهَ أسأل التَّوفيق والإرشاد إلى سلوك طريق السَّداد، وأن يعينَني على التَّكميل، فهو حسبي ونِعْمَ الوكيل.
          وهذه مقدِّمةٌ مشتملةٌ على وسائل المقاصد، يهتدي بها إلى الإرشاد السَّالك والقاصد، جامعةٌ لفصولٍ، هي لفروعِ قواعد هذا الشَّرح أصولٌ.


[1] زيد في (د): «وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم، وبالله التوفيق والإعانة»، وزيد في (ص): «وبه ثقتي».
[2] «تعالى» زيادة من (د).
[3] في (د) و (س): «وأحبائه»، وقد زيد عقبه في (ص): «فأشرقت مشكاة اندراجه في سلسلة خاصَّته وأحبائه»، والظاهر أنَّها مقحمة، مكرِّرة بعض ما تقدَّم وما يأتي.
[4] في (د): «صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وخلفائه».
[5] «آمين»: ليس في (د).
[6] في (ص): «وأبرز»، وسقط من (م).
[7] في (ص): «بتعليق».
[8] في (د): «من».
[9] في (د) و (ص): «الفقهاء».
[10] في (د): «الفوائد».