افتتاح القاري لصحيح البخاري

لم يلتزم الشيخان إخراج جميع ما صح

          ولم يلتزما بإخراج جميع ما صحَّ من الأحاديث؛ لأنَّ في السُّنن وغيرها أحاديثَ / صحيحةً ليست في كتابَيهما، وما قاله الحافظ أبو عبد الله محمَّد بن يعقوب بن الأخرم: (قَلَّ ما يفوتُ البخاريَّ ومسلمًا _يعني: في صحيحيهما_ من الأحاديث الصَّحيحة)، فقد ناقشه الإمام أبو عمرو ابن الصَّلاح في ذلك، فإنَّ الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرةً، وإنْ كان في بعضها مقالٌ، إلَّا أنَّه يصفو له شيءٌ كثيرٌ.
          وذكر الإمام أبو بكرٍ البيهقيُّ أنَّهما اتَّفقا على أحاديث من صحيفة هَمَّام بن مُنَبِّهٍ، وأنَّ كلَّ واحدٍ منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها والإسناد واحد، وهذا يُشعر أنَّهما لم يلتزم استيعاب الأحاديث الصَّحيحة، بل صرَّحا بأنَّهما لم يستوعباها، فقد ثبت فيما رواه أبو أحمد بن عَدِيٍّ الحافظُ فقال(1) : وسمعت الحسن بن الحسين البزَّاز يقول: سمعت إبراهيم بن مَعقِل، سمعت محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ يقول: / (ما أدخلت في هذا الكتاب _يعني: جامعه الصَّحيح_ إلَّا ما صحَّ، وتركتُ من الصِّحاح كَيْلاَ يطول الكتاب).
          وحدَّث بنحوه أبو عبد الله محمَّد بن أحمد البخاريُّ الحافظ المعروف بـغُنْجَار، عن أبي الحسين محمَّد بن الحسين بن علي بن يعقوب الكاتب: سمعت إبراهيم بن معقل فذكره.
          وقال مسلم في ((صحيحه)): (ليس كلُّ شيءٍّ عندي صحيح وضعتُهُ هنا، إنَّما وضعتُ هنا ما أجمعوا عليه).
          يريد ما وَجَدَ عنده فيها شرائط الصَّحيح المُجْمَعِ عليه، وإنْ لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم، قاله ابن الصَّلاح.
          وقال الحافظ أبو نُعيم أحمد بن عبد الله في كتابه ((المستخرج على صحيح مسلم)): (ومتى قصد فارس من فرسان هذه الصَّنعة ورام الزِّيادة عليه في شرطه _يعني: البخاريَّ_ من الأصول أمكنه ذلك لتركه ☼ ما لا يتعلَّق بالأبواب والتَّراجم التي بنى عليها كتابه).
          وهذا بعينه قول الحاكم أبي عبد الله، وتوفِّي قبل أبي نُعيم بخمس وعشرين سنة تقريبًا، فقال الحاكم في كتابه ((المدخل إلى معرفة رجال الصَّحيحين)): / (وأمَّا محمَّد بن إسماعيل فإنَّه بالغ في الاجتهاد فيما خرَّجه / وصحَّحه، ومتى قصد الفارس من فرسان أهل الصَّنعة أنْ يزيدَ على شرطه مِن الأصول أمكنه ذلك؛ لتركه كلَّ ما لم يتعلَّق بالأبواب التي بنى كتابه الصَّحيح عليها، فإذا كان الحال ما وصفنا بان للمتأمِّل من أهل الصَّنعة أنَّ كتابيهما لا يشتملان على كلِّ ما يصحُّ من الحديث، وأنَّهما لم يحكما أنَّ مَن لم يخرجاه في كتابيهما مجروح أو غير صدوق). انتهى.
          ورُوي عن أبي قريش محمَّد بن جمعة بن خلف القايني الحافظ قال: (كنت عند أبي زُرعة الرَّازيِّ فجاء مسلم بن الحجَّاج فسلَّم عليه وجلس ساعة، وتذاكرا فلمَّا قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصَّحيح. قال أبو زرعة: فلمن ترك الباقي؟)
          وهذا يَرُدُّ على أبي الحسن الدَّارقطنيِّ وغيره حيث ألزموا البخاري ومسلمًا إخراج أحاديث تركا إخراجها وأسانيدُها صحيحة، وأنَّه ليس بلازم في الحقيقة إخراج ذلك في صحيحيهما لِمَا ذكرناه.


[1] هكذا بالفاء في الأصلين.