نظم اللآلي والدرر

في التعريف بالإمام البخاري رضي الله عنه

          الفصل الثاني:
          في التَّعريف بالإمام البخاريِّ ☺:
          وهو وإن كان في الشهرة كنارٍ على عَلَمٍ؛ فلا بأس بذكر شيء مِن أحواله؛ تبرُّكًا به ☺.
          قال ابن حجر: (هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة(1) الجعفيُّ، ولد(2) يوم الجمعة بعد الصلاة، لثلاثَ(3) عشرةَ ليلةً خلت من شوَّال سنة أربع وتسعين ومئة ببخارى، قال المستنير بن عتيق: أخرج لي ذلك محمَّد بن إسماعيل بخطِّ أبيه، وجاء ذلك عنه من طرق، وجدُّه بَرْدِزْبَة؛ بفتح الباء الموحَّدة، وسكون الراء المهملة، وكسر الدَّال المهملة، وسكون الزاي المعجمة، وفتح الباء الموحَّدة، بعدها هاء؛ هذا هو المشهور في ضبطه، وبه جزم ابن ماكولا، / وقيل: في ضبطه غير ذلك، وبَرْدِزْبَة بالفارسيَّة: الزرَّاع، كذا يقول أهل بخارى، وكان بَرْدِزْبَة فارسيًّا(4) على دين قومه، ثمَّ أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفيِّ، والٍ ببخارى، فنُسِب إليه نسبةَ ولاء؛ عملًا بمذهب مَن يرى أنَّ مَن أسلم على يد شخص؛ كان ولاؤه له(5) ؛ فلذلك قيل له: الجعفيُّ، وأمَّا ولده إبراهيم بن المغيرة؛ فلم نقف على شيء مِن أخباره، والظاهر أنَّه لم ينظر في العلم، وأمَّا إسماعيل والد(6) محمَّد؛ فقد ذُكِرَتْ له ترجمة في «كتاب الثِّقات» لابن حبَّان، فقال في (الطبقة الرابعة): إسماعيل بن إبراهيم والد البخاريِّ، يروي عن حمَّاد بن زيد ومالك، روى عنه العراقيُّون، وذكره ولده في «التاريخ الكبير» فقال: إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحمَّاد بن زيد، صحب ابن المبارك، ومات إسماعيل ومحمَّد ابن صغير، فنشأ في حجر أمِّه، ثمَّ حجَّ مع أمِّه وأخيه أحمد وكان أسنَّ منه، فأقام هو بمكَّة مجاورًا يطلب العلم، ورجع أخوه أحمد مع أمِّه إلى بخارى، فمات بها.
          روى غنجار في «تاريخ بخارى» واللَّالكائي(7) في «شرح السنَّة» في (باب كرامات الأولياء) منه: أنَّ محمَّد بن إسماعيل ذهبت عيناه(8) في صغره، فرأت والدته إبراهيم الخليل في المنام، فقال لها: يا هذه؛ قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، فأصبح وقد ردَّ الله عليه بصره، وقال الفربريُّ: سمعت محمَّد بن أبي / حاتم ورَّاق البخاريِّ يقول: سمعت البخاريَّ يقول: أُلهِمت حفظ الحديث وأنا في الكتَّاب، قلت: فكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثمَّ خرجت مِن الكتَّاب فجعلت أختلف إلى الداخليِّ وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس سفيان: عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت: إنَّ أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني(9) ، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثمَّ رجع فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير؛ وهو ابن عديٍّ عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت، قال: فقال له إنسان: ابن كم كنت حين رددتَ عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة، قال: فلمَّا طعنت في ستَّ عشرةَ سنةً؛ حفظت كتاب «ابن المبارك» و«وكيع»، وعرفت كلام هؤلاء؛ يعني: أصحاب الرَّأي، قال: فلمَّا طعنت في ثمان عشرة؛ صنَّفت كتاب «قضايا الصحابة والتابعين»، ثمَّ صنَّفت «التاريخ» في المدينة عند قبر النَّبيِّ صلعم، وكنت أكتبه في اللَّيالي المقمِرة، قال: وقلَّ اسمٌ في «التاريخ» إلَّا وله عندي قصَّة، إلَّا أنِّي كرهت أن يطول الكتاب.
          وقال حاشد بن إسماعيل: كان البخاريُّ يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب، حتَّى أتى على ذلك أيَّام، فلمناه بعد ستَّةَ عشرَ يومًا فقال: قد أكثرتم عليَّ، فاعرضوا عليَّ ما كتبتم، فأخرجناه، فزاد على / خمسةَ عشرَ ألف حديث، فقرأها كلَّها عن ظهر قلب، حتَّى جعلنا نصلح كتبنا مِن حفظه، وقال أبو بكر بن أبي عتَّاب الأعين: كتبنا عن محمَّد بن إسماعيل وهو أمرد على باب محمَّد بن يوسف الفريابيِّ(10) .
          قلت: كان موت الفريابيِّ سنة اثنتَي عشرة ومئتين، فكان سنُّ البخاريِّ إذ ذاك نحوًا من ثمانيةَ عشرَ عامًا أو دونها.
          وقال محمَّد بن الأزهر السجستانيُّ: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاريُّ معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟! فقال: يرجع إلى بخارى فيكتب مِن حفظه، وقال ورَّاق البخاريِّ: سمعته يقول: دخلت بَلْخَ، فسألوني أن أُمليَ عليهم لكلِّ مَن لقيت حديثًا عنه، فأمليت ألف حديث لألف شيخ ممَّن كتبت عنه، ثمَّ قال: كتبتُ عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلَّا صحب حديث، ومِن سعة حفظه: قصَّة المئة حديث التي قلبها أهل بغداد، فردَّها على الصواب، وذلك أنَّ محمَّد بن إسماعيل قدم لبغداد(11) ، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكلِّ رجل عشرة أحاديث، فلمَّا حضروا معه المجلس بمحضر جماعة؛ قام واحد مِن الرجال العشرة، فسأله عن حديث من / تلك الأحاديث، فقال البخاريُّ: لا أعرفه، ثمَّ عن حديث ثانٍ، فقال: لا أعرفه، حتَّى فرغت عشرته، فكان مَن حضر المجلس من العلماء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرَّجل، ومَن كان لم يدرِ القضيَّة؛ يقضي على البخاريِّ بالعجز والتقصير وقلَّة الحفظ، ثمَّ قام رجل ثانٍ من العشرة، وسأله عن عشرته واحدًا واحدًا، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، ثمَّ قام الثَّالث والرَّابع، كذلك إلى تمام أحاديث الرَّجل العاشر، والبخاريُّ لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه، فلمَّا علم أنَّهم قد فرغوا؛ التفت إلى الأوَّل فقال: أمَّا حديثك الأوَّل الذي قلت فيه كذا؛ فصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثَّالث والرابع على الولاء، حتَّى أتى على تمام العشرة، فردَّ كلَّ متن إلى إسناده، وكلَّ إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثلَ ذلك، فأقرَّ الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
          ابن حجر: قلت: هنا نخضع للبخاريِّ، فما العجب من ردِّه الخطأ إلى الصَّواب؟! فإنَّه كان حافظًا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه مِن مرَّة واحدة، وقال أبو بكر الكلوذانيُّ: كان البخاريُّ يأخذ الكتاب من العلم، فيطَّلع إليه اطِّلاعةً، فيحفظ عامَّة أحاديثه مِن مرَّة.


[1] في (أ): (بردزية).
[2] في هامش (ب): (على ولادة «194» الإمام البخاري).
[3] في (أ): (الثلاث).
[4] في هامش (ب): (قوله: «فارسيًّا» هذه عبارته في «المقدِّمة»، وفي «الشَّرح»: كان بردزبه المذكور مجوسيًّا).
[5] في هامش (ب): (أي: لذلك الشخص).
[6] في (أ): (ولد).
[7] في (أ): (الالكان)، وفي (ب): (الألكاني).
[8] في (ب): (عينًا له).
[9] في (أ): (فانتظرني).
[10] في (أ) و(ب): (الفرياني)، وكذا الموضع اللَّاحق، وهو تصحيف.
[11] في (ب): (بغداد).