الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة

حديث الإسراء

          فصل: ثمَّ سألتَ كيف كان الإسراء: أبروحه أو بجسده؟
          فالجواب: إنَّ الإسراء برسول الله صلعم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمَّ إلى السماء كان وهو مستيقظ غير نائم، أُسري به على حاله بجسده صلعم، هذا هو الصَّحيح عندنا، وممَّا يدلُّك على ذلك [ما ذكره] أهل السير: أنَّ أبا جهل وكفَّار قريش أنكروا على رسول الله صلعم ما ادَّعاه في إتيانه تلك الليلة بيت المقدس من مكَّة، وذهبوا إلى أبي بكر، فقالوا: يا أبا بكر، هل لك في صاحبك يزعم أنَّه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلَّى فيه ورجع إلى مكَّة؟ قال: فقال أبو بكر: إنَّكم تكذبون عليه، فقالوا: بل هو ذاك في المسجد يُحدِّث به النَّاس، فقال أبو بكر: والله لئن قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك، والله إنَّه ليخبرني الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليلٍ أو نهارٍ فأصدُّقه، فهذا أعجب ممَّا تعجبون منه، ثمَّ أقبل / حتَّى انتهى إلى رسول الله صلعم فقال: يا نبيَّ الله، أحدَّثت هؤلاء أنَّك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ فقال: «نعم» قال: يا نبيَّ الله، صفه لي، فإنِّي قد جئتُه؟ قال رسول الله صلعم: «فرُفِع لي حتَّى نظرت إليه»، فجعل رسول الله صلعم يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنَّك رسول الله، كلَّما وصف منه شيئًا، قال: صدقت، أشهد أنَّك رسول الله، أشهد أنَّك رسول الله، حتَّى إذا انتهى قال لأبي بكر: «وأنت يا أبا بكرٍ الصِّدِّيقُ»، فيومئذ سمَّاه: الصِّدِّيقَ.
          ففي هذا الخبر وهو مشهورٌ مأثورٌ، ما يدلُّك على أنَّ الإسراء لم يكن بروحه في منامه؛ لأنَّه صلعم لو قال لهم: إنِّي رأيتُ البارحة في المنام أنِّي أتيت بيت المقدس، ما أنكر ذلك عليه أحد؛ لأنَّ الرؤيا لا يُنكر ذلك منها مؤمن ولا كافر، لكن يدفعها ويجعلها من الطبائع، ولا يقول فيها بقول أهل الإسلام، والرؤيا وعبارتها في الجاهلية معلوم عندهم، وممَّا يدلُّك أيضًا على ذلك قول أبي بكر الصِّدِّيق ☺ في هذا الخبر لقريش حين / قالوا له: إنَّ صاحبك يزعم أنَّه أتى بيت المقدس، فقال: إنَّكم تكذبون عليه، وممكن عنده الرؤيا أكثر من ذلك من بلوغ خراسان وأقصى الأرض، والصعود إلى الهواء، ورؤية الله تبارك وتعالى، وغير ذلك مما يراه الكفَّار في الرؤيا، وأبو بكر ☺ كان من أبصر النَّاس بالرؤيا وأحسنهم لها تعبيرًا، فهذا كلُّه يدلُّك على أنَّها لم تكن(1) رؤيا، وإنَّما أُسري به كما ذكرنا.
          وأمَّا قوله ╡: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:60] فمختلف في تأويلها اختلافًا كثيرًا يطولُ ذكره، وإنكار عائشة ♦ الإسراء بجسده لا يصحُّ عنها، ولا يثبتُ قولها: (ما فقدتُ جسد رسول الله صلعم، ولكن أُسري بروحه).
          وقد قال بعضهم عنها: (ما فقدتُ جسد رسول الله صلعم في تلك الليلة)، وهذا من الكذب الواضح؛ لأنَّ عائشة لم تكن وقت الإسراء معه، وإنَّما ضمَّها بعد ذلك بسنين كثيرة بالمدينة، ولو كانت رؤيا ما كان في ذلك شيء يقدح في الديانة ولا في الشريعة؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء ‰ / وحيٌ صحيح بدليل الكتاب والسنَّة، قال الله ╡ حكاية عن إبراهيم ◙ في ابنه لمَّا بلغ معه السعي: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، وكان الوحي يأتيه نائمًا ويقظانًا، وكذلك كان يأتي الأنبياء قبله أيقاظًا ونيامًا.
          قال صلعم: «تنام عيناي ولا ينام قلبي، وتنام عيناي وقلبي يقظانٌ، وإنَّا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا»، وقالت عائشة ♦: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَ يَرَى رُؤْيَا(2) فَتَأتِي مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) [خ¦3]، والذي عليه جمهور أهل الفقه والأكثرون(3) أنَّ الإسراء به كان وهو يقظان، أُسري بجسده وروحه على هيئته وحاله، فرأى ما رأى، وما كذب الفؤاد ما رأى، صلعم وشرَّف وكرَّم.


[1] في الأصل: (يكن).
[2] في الأصل: (الرؤيا).
[3] في الأصل: (والأكثرين).