الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة

حديث: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب

          الحديث الثالث عشر: حديث طلحة قال: (صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ(1) الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ(2)). [خ¦1335]
          قلتَ: وروى البخاريُّ(3) عن عوف بن مالكٍ قال: (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنَصْارِ، فَكَانَ مَمَّا حَفَظْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، إلى آخر الدُّعاء...)، ولم يذكر فاتحة الكتاب.
          فالجواب أنَّ طلحة هذا الذي روى عن ابن عبَّاس أحد الثقات الأثبات الأشراف، وهو طلحة بن عبد الله بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، يُكْنَى أبا محمَّد، مِن علماء أهل المدينة، / وكان من سروات قريش وأجوادهم، وكان قد ولي المدينة، فكان سعيد بن المسيَّب يقول إذا ذكره: (ما وَلِيَنا مثله)، توفِّي سنة سبع وتسعين.
          وإسناد حديثه هذا أصحُّ من إسناد حديث عوف بن مالك، ولو كان حديث عوف بن مالك ثابتًا ما كان فيه شيءٌ يُعارض حديث ابن عبَّاس هذا؛ لأنَّ عوفًا إنَّما قال: (فكان ما حفظت من دعاء رسول الله صلعم) خاصَّة دون القراءة التي هي محفوظة على كلِّ لسان عنده، أو يكون لم يسمع من ذلك إلَّا ما ذكر، وليس من قال: (لم أسمع ولم أحضر ولم أعلم) بشاهدٍ؛ لأنَّ الشاهد مَن أثبتَ، لا من نفى، وليس يُعارَض قولُ المثبت بقول النَّافي، وقد أخبر ابن عبَّاس أنَّ قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة سُنَّة، وقال هذا القول ليثبت الحجَّة فيها.
          ولفظ ما أوردتَه من حديث ابن عبَّاس في سؤالك ناقصٌ، وإنَّما الحديث: (أنَّ ابن عبَّاس قرأ على الجنازةِ بفاتحةِ الكتابِ فَجَهَرَ بها، ثمَّ لمَّا انصرفَ قالَ: إنَّما جهرتُ بها لتعلموا أنَّ قراءتها سنَّة).(4)
          وإنَّما / كان يكونُ حديث عوف معارضًا لما قال ابن عبَّاس لو قال عوف: (سمعت رسول الله صلعم يقول: «لا تقرؤوا على الجنازة بفاتحة الكتاب»)، فحينئذ كان يصحُّ التعارض، فيطلب الدَّليل على النَّاسخ منهما من المنسوخ، على أنَّ كلَّ مَن قال بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة من الفقهاء لا يمنع ولا يدفع أن يُدعى للميِّت مع قراءتها بما في حديث عوف بن مالك من الدعاء، وبأكثر وبأقلَّ، وكلُّهم يستعمل حديث عوف بن مالك ومثله في ذلك، ولا يأباه مع قراءة فاتحة الكتاب.
          والذين يقولون بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة يختلفون على قولين؛ فطائفة منهم تقول بقراءة فاتحة الكتاب عقيب كلِّ تكبيرة ويدعو بإثرها؛ لأنَّ التكبيرة في الصلاة مقام ركعةٍ في غيرها، رُوِي ذلك عن أبي هريرة والمِسْوَر بن مَخْرمة، وبعض المحدِّثين يرفع حديثهما أيضًا، وهو قول الحسن بن عليٍّ، والحسن(5) البصريُّ، ومحمَّد بن سيرين، وشهر بن حوشب، وفرقة من أهل الظَّاهر.
          وقال آخرون: لا يقرأ عليها بفاتحة الكتاب إلَّا مرَّةً واحدةً عقيب التكبيرة الأولى، وهذا قول / الشَّافعيِّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود بن عليٍّ، ورُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ من وجوهٍ، وعن ابن مسعود، وعثمان بن حُنيف، وابن الزبير، وعبيد(6) بن عمير، وأبي أُمامة بن سهل بن حُنيف.
          وقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة مشهور معلوم بالمدينة، والاختلاف في هذه المسألة بالمدينة معروف، وممَّن قال: ليس في الصَّلاة على الجنازة قراءة وإنَّما هو دعاء: مالك، وسفيان الثوريُّ، وأبو حنيفة وأصحابهم، ورُوي ذلك عن ابن عمر وفَضالة بن عُبيد، وقد روي أيضًا عن أبي هريرة خلاف الرواية الأولى، وهو قول عطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيِّب، والشَّعبيُّ، والحكم، وحمَّاد، وروي أيضًا عن ابن سيرين خلاف الرواية الأولى.
          ومن طريق النَّظر أنَّها كسائر الصلوات؛ لأنَّها لا ركوعَ فيها ولا سجودَ ولا تشهُّدَ، فغيرُ نكيرٍ أنْ تكون خارجة من عموم قول رسول الله صلعم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، لكنَّهم قد أجمعوا على أنَّها لا تصلَّى على غير طهارة، ولا إلى غير القبلة، إلَّا الشَّعبيَّ وحده، فإنَّه شذَّ عن العلماء في هذه المسألة وأجازها بغير وضوءٍ ولا تيمُّمٍ، وقال: (إنَّما هو دعاء)، ومسائل الخلاف يطول الكلام فيها، / فلا وجه للتعريض بذلك، وفيما أتينا به بيان ما سألتَ عنه إن شاء الله تعالى.


[1] في الأصل: (فاتحة).
[2] في الأصل: (لتعلموا إنما هي سنة).
[3] كذا قال ☼، والبخاري لم يخرج حديث عوف إنما خرَّجه مسلم [ح: 963] وعذر المصنف ☼أنَّه كتب الأجوبة من حفظه.
[4] كذا قال ☼، والبخاري لم يخرج لفظة: (فجهر بها).
[5] في المخطوط: (بن الحسن).
[6] في المخطوط: (وعبد).