الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة

حديث: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة

          الحديث العاشر: حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُم الْعَصْرَ(1) إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَهم الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي(2) حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُصَلِّيها، ورُمْنَا ذَلِكَ، / فذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلعم فلم يَعِبْ واحدًا منهم.
          وقلتَ: إدخالُ(3) البخاريِّ هذا الحديث، ينقض بعضهم به قول الشافعيِّ: إنَّ الطالب لا يصلِّي صلاة الخوف إلَّا صلاة كاملةً؛ لأنَّ الله ╡ لم يشترط أن تصلِّى صلاة الخوف إلَّا مع مقاتلته، خوف الفتنة؛ لأنَّ الخوف يرتفع عن الطالب، وقلتَ: فانظر رحمك الله؛ إنْ كان هذا الحديث الذي أدخل البخاريُّ حجَّةٌ على الشافعيِّ أم لا؟ لأنَّه اعترض معترض فقال: أمَّا الذين صلُّوا في الطريق فأتمُّوا، والذين صلُّوا في بني قريظة بعد فوات الوقت، فلا خوف عليهم، هذا كلُّه لفظ كتابك.
          فالجواب أنَّ حديث ابن عمر هذا ليس فيه شيء ممَّا ذكرتَ، فلا يقتضي معنىً من المعاني التي إليها أشرتَ، وإنَّما فيه إباحةُ الاجتهاد على الأصولِ، وجوازُ فعل المجتهد إذا كان الاجتهاد منه على أصلٍ صحيحٍ؛ لأنَّه صلعم أمرهم أن يُصلُّوا العصر في بني قريظة استعجالًا منه [لـــ] ـهم وحبًّا لإدراك / النَّاس من اليهود الناقضين لعهده المُعِيْنين على الأحزاب، وقد كان عند أصحابه أنَّه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها حتَّى يفوت، فلمَّا أدركتهم الصلاة وخشوا فوتها، مَن خشي ذاك منهم بدر إلى أدائها على أصله في فرض وقتها واحتمال قول رسول الله صلعم عنده مثل ذكر الآية، قد يجوز أن يكون صلعم لو رُوجع بالسؤال فقيل له: أرأيتَ لو خشينا فوت العصر أنصلِّي أم نُتِمُّ؟ أَو كان يقول: لا تفرِّطوا في صلاتكم، فإنِّي طمعت لكم أن تدركوا بني قريظة في بقيةٍ من الوقت، وكان قولي ما قلته استعجالًا لكم، وهذا وجه محتمل.
          والطائفة التي أخَّرت الصلاة حتَّى تأتي بني قريظة، استعملت ظاهر لفظه، ووقفت عنده، فعذرهم رسول الله صلعم كلَّهم باجتهادهم، كما عذر الله ╡ داود وسليمان؛ إذ حكما في الحرث؛ { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } [الأنبياء:78]، فأثنى على سليمان أن فهمها، وعذر داود ولم يذمَّه لاجتهاده، وهذا الاجتهاد عند العلماء على الأصول؛ لأنَّ ظاهر لفظه صلعم / أصل فيما(4) كانوا عليه من معرفة الوقت، فافهم هذا ترشد إن شاء الله تعالى.
          وأمَّا قولكَ: إدخال(5) البخاريِّ هذا الباب ينقض به قول الشافعيِّ: أنَّ الطالب لا يصلِّي صلاة الخوف، فهذا قول مَن لا علم له بالآثار ولا بمقصد المصنِّفين لها، وما بقي في هذا الحديث ممَّا يدلُّ على أنَّ القوم كانوا مبتدئين(6) للعدوِّ، أو ممَّا يدلُّ على أنَّ القوم قصروا الصلاة أو أتمُّوا، أو ما فيه ما يكون حجَّة على من قال أنَّ الطالب لا يصلِّي صلاة الخوف، أو على من قال: إنَّه يصلِّيها، ما فيه شيء يدلُّ على شيء ممَّا ذكرتَ، ولم يكن أحد من بني قريظة هاربًا فيُتبع، وإنَّما كانوا في حصونهم لم يبرحوا منه، وكانوا قد أعانوا أبا سفيان والأحزاب بالرأي والسِّلاح، ونقضوا العهد، وقد رامهم أبو سفيان وقريش أن يخرجوا فيقاتلوا معهم، فأبوا عليهم إلَّا أن يعطوهم رهنًا يكون بأيديهم وثيقة، قالوا: فإنَّا نخشى إنْ ضَرَسَتْكم تلكم(7) الحرب، واشتدَّ عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا / ولا طاقة لنا، فأبت قريش وغطفان أنْ يعطوهم رهنًا، وحرَّك الله بينهم وبعث عليهم الريح الشديدة في ليال شديدة البرد، فجعلت تكفؤ قُدورهم، وتطرح أبنيتهم حتَّى فرُّوا ليلًا، فلمَّا أصبح رسول الله صلعم وأيقن بفرارهم؛ انصرف عن الخندق راجعًا إلى المدينة هو والمسلمون ووضعوا السَّلاح، فلمَّا كان الظُّهرُ؛ أتى جبريلُ ◙ رسولَ الله صلعم وهو في صِفَةِ دحية بن خليفة الكلبيِّ، قال الزهريُّ: معتجرًا بعمامة من إِستبرق على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال لرسول الله صلعم: قد وضعت السلاح؟ قال: «نعم»، قال جبريل: ما وضعت الملائكةُ السلاحَ بعد، وما رجعت الآن إلَّا من طلب القوم، إنَّ الله يأمرك يا محمَّد؛ بالمسير إلى بني قريظة، فإنِّي عامدٌ إليهم، فمزلزلٌ عليهم، فأمر رسول الله صلعم مؤذِّنًا، وأذَّن: «من كان سامعًا ومطيعًا فلا يصلِّينَّ العصر إلَّا في بني قريظة»، واستعمل على المدينة ابنَ أمِّ مكتوم، وقدَّم(8) عليَّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة / وابتدرها النَّاس.
          فهل في هذا الحديث، أو حديث ابن عبَّاس في شيء من الآثار أنَّ القوم كانوا ذلك الوقت طالبين العدوَّ وكان بين أيديهم؟ وهل فيها ما يدلُّ على أنَّ المسافة بين المدينة وبين قريظة يجب فيها التقصير في ذلك الحديث، أو في غيره ذكر؟ وهل(9) دعوى ذلك من مدَّعيه إلَّا تظنُّنًا وتخرُّصًا؟ ولا يجوز القول في دين الله إلَّا باليقين.
          وأمَّا قولك أو قولُ مَن حكيت قوله: (وأمَّا الذين صلُّوا في الطريق وأتمُّوا)؛ فمن هذا الذي نقل إليكم أنَّهم أتمُّوا أو قصروا، وأنَّ الآخرين أَمِنُوا الخوف؟ وما أدري ما الخوف الذي أَمِنوا منه؛ لأنَّه لم يُذكر في خبر، وهذا علمٌ لا يُدرى إلَّا بخبرٍ، والله المستعان.
          وأمَّا الشافعيُّ ☼ فقوله: (إنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يصلِّي صلاة الخوف إلَّا أن يعاينَ عدوًّا(10) قريبًا غير مأمون أن يحمل عليه...) في كلام طويل له في كتابه، وقال في صفة الخوف الذي للرجل أن يصلِّي فيه راجلًا وراكبًا، للقبلة وغيرها: (إطلال العدوُّ على العسكر، فيتراءون ويتقاربون حتَّى ينالهم الرمي في غير حصنٍ، وربما نالهم الطَّعن والضَّرب. /
          فإذا كان هذا صفة صلاة شدَّة الخوف، وإن كانوا يُستقبَلون بالعدوِّ والعددُ قليل، يقوم بكلِّ طائفة منه مَن يليها ولم يحط العدوُّ بهم؛ صلُّوا صلاة غير شدَّة الخوف)، قال: (ولا بأسَ في شدَّة الخوف بالطعنة والضربة الخفيفة، وإن تابع الطعن أو الضرب لم تجزءه صلاته)، هذا كلُّه قول الشافعيِّ.
          وقال الثوريُّ: إذا كنت خائفًا وكنت راكبًا، أو قائمًا، أو ماشيًا، أو حيث كان وجهك، تجعل السجود أخفض من الركوع، وذلك عند المسايفة؛ كقول مالك وسائر الفقهاء، وذلك متقارب كلُّه لا يختلف معناه، إلَّا الأوزاعيَّ فإنَّه أجاز للطالب أن يصلِّي راكبًا على ظهره، ورواه عن شرحبيل بن حسنة، والفقهاء على خلافه في ذلك، وظاهر القرآن لا يطلق الصلاة راكبًا وراجلًا إلَّا مع شدَّة الخوف، وكذلك السُّنَّة.
          روى ابن عمر عن رسول الله صلعم صفة صلاة الخوف وحكمها، وقالوا في الحديث: (وإن كان خوفٌ أشدَّ من ذلك؛ صلُّوا رجالًا وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) / فلم يطلق هذه الصلاة للخائف إلَّا في حال شدَّة الخوف، هذه حال لا يصلَّى فيها جماعة لحال شدَّة الخوف، وفي النظر معلوم أنَّ الطالب غير خائفٍ، فكيف يصلِّي صلاة الخوف؟ وهل تجوز صلاة الخوف لغير خائف؟ هذا ما لا يفهم في لسان ولا سنَّة ولا بيان، والله المستعان.
          فإن قال قائل: إنَّ عبد الله بن أُنيس صلَّى وهو طالب يومئ برأسه حين بعثه رسول الله صلعم إلى قتل الهُذليِّ الذي كان أجمع لغزو رسول الله صلعم.
          قيل له: لم تتدبَّر حديث عبد الله بن أُنيس، ولو تدبَّرته لعلمت أنَّه كان خائفًا؛ لأنَّه قد كان اجتمع به وعاينه حين صنع ذلك، ولفظ حديثه: (فأقبلتُ نحوه وخشيتُ أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليتُ وأنا أمشي نحوه).
          ألا ترى إلى قوله: (فخشيتُ) وهو الخوف الصحيح؟ على أنَّه ليس في هذا الحديث أنَّ رسول الله صلعم جوَّز ذلك له ولا كرهه ولا علم به، وفيما ذكرناه مقنع لمن وفِّق لفهمه.


[1] قوله: (العصر) ليس في الأصل.
[2] في الأصل: (نصليها).
[3] في المخطوط: (أدخل).
[4] في المخطوط: (ممَّا).
[5] في المخطوط: (أدخل).
[6] في الأصل: (متبعين).
[7] في المخطوط: (بينكم).
[8] في الأصل: (وقد).
[9] في الأصل: (وهذه).
[10] في الأصل: (إلا أربعًا من عدوٍ).