البخاري أضواء على حياته وجامعه

ومضات من جلساته العلمية

          مع الفريابي في دمشق
          قضى بطلُ السُّنَّة حياته مجاهداً من أجلها، يُمتحن حيناً ويسعد أحياناً، وما ساعات سعادته إلا مجلسُ علمٍ يحضره، أو مناظر ينتصر فيها للحق.
          وها هو شيخنا في مجلس الإمام الفريابي في دمشق يستمع إلى الحدث باهتمام، فإذا بالفريابي يقول: حدثنا سفيان عن أبي عروبة عن أبي الخطاب عن أنس: أن النبي صلعم كان يطوف على نسائه بغسل واحد، / ثم إنه لم يعرف أحدٌ في المجلس من هو أبو عروبة، ولا أبو الخطاب، فقال البخاري: أما أبو عروبة فمَعْمَر، وأما أبو الخطاب فقتادة.
          وأخذ البخاري في دمشق عن غيره من الأعلام كمحمد بن إبراهيم وآدم بن إياس وحَيْوة بن شريح وغيرهم.
          مع رجاء الحافظ
          وزاره رجاء الحافظ فقال البخاري: ما أعددت لقدومي حين بلغك، وفي أيِّ شيء نظرت، قال: ما أحدثت نظراً؛ ولا استعددت لذلك، فإن أحببتَ أن تسأل فافعل؛ فجعل يناظره في أشياء وجعل رجاء لا يدري، ثم سأله البخاري بعد ذلك: كم رَوَيْتَ في العمامة السوداء؟ قال: هات كم رويت أنت؟ فقال البخاري: يُروى عن أربعين حديثاً، فلم ينطق رجاء ببنت شفة وجفَّ ريقه.
          مع مسلم بن الحجاج
          التقى الشيخان في نيسابور فكان لقاء حاراً ترجم عما يكنه كلُّ واحد للآخر، وقلَّ أن يجتمع أهل فضل وعلم دون أن يتباحثا في مسألة علمية أو رأي، ولقد دارت بينهما مناقشات علمية كان الإمام مسلم يتهيَّب من الرَّدِّ عليها، وجرى حديثٌ كفارة المجلس (إذا قام العبد أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).
          فروى البخاري سندَ هذا الحديث من طريقٍ لا يعرفه مسلم، / فقام إليه وقبَّل ما بين عينيه وقال: (دعني أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله؛ وقال له: أشهد أن ليس في الدنيا مثلك) روى هذا اللقاء أحمد(1) بن حمدون القصَّار، ولا غرابة في إجلال مسلم له فهو أستاذه، ولولاه لما راح ولا جاء.
          وكان الإمام مسلم قد انسحب من حلقة الذُّهليِّ انتصاراً لأبي عبد الله البخاري في سمرقند.
          مع إسحاق بن راهويه
          وحدَّثوا أنَّ شيخ الحديث إسحق بن راهويه كان جالساً على السرير ومحمد بن إسماعيل معه، فأنكر عليه محمدٌ شيئاً، فرجع إسحق إلى قول محمد بن إسماعيل، وقال للناس: يا معشر أصحاب الحديث اكتبوا عن هذا الشاب، فإنه لو كان في زمن الحسن البصريِّ لاحتاج الناس إليه؛ لمعرفته بالحديث وفهمه.
          لقاء في نيسابور
          كان البخاري في طريقه إلى مدينة نيسابور حين طار اسمه إليها يسبقه، وزحفت جموع الناس لاستقبال البخاري في مواكبهم وزينتهم، على رأسهم علماء المدينة وفي مقدِّمتهم شيخها الذهلي... خرج هؤلاء جميعاً إلى ثلاث مراحل من المدينة لاستقبال الضيف العظيم... ولما تمَّ اللقاء / الكبير نُثرت الدراهم والدنانير، وعلا التهليل والتكبير، وسار الموكب إلى منزل الذُّهليِّ تغصُّ به الشوارع، وتمتلئ الساحات، إنها فرحة عظيمة لو كتب لها أن تستمر.


[1] في الأصل: روى هذا اللقاء الأعمش ورواه.