الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

مقدمة المصنف

          ♫
          نحمده ونصلِّي ونسلِّم(1) على رسوله الكريم.
          الحمد لله الَّذي قال _وما أصدقَ قولَه الكريم!_: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النَّحل:18].
          والصَّلاةُ والسَّلامُ الأَتمَّانِ الأكمَلانِ على مَنْ قال اللهُ عزَّ اسمُه في حقِّه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال عزَّ اسمُه تبجيلًا له: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة الهداة للدِّين المتين.
          وبعدُ: فيقول العبدُ المفتقِرُ إلى رحمة ربِّه الجليل، عبدُه زكريَّا بنُ يحيى بن إسماعيل:
          إنَّ هذا العاجز مكث بفضل الله وكرمه مِنْ آخر سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة وألف، إلى سنة ثمانٍ وثمانين وثلاث مئة وألف مِنَ الهجرة مشغولًا بالحديث الشَّريف، درسًا وتدريسًا وتصنيفًا وتأليفًا، ومِنْ فضل الله تعالى وكرمِه وإحسانه أنَّه جعلني _مع أدناسي وأنجاسي الظَّاهرة والباطنة_ مشتغلًا بكلام رسوله المطهَّر المبارك، ولكنَّه لكثرة الأمراض الرُّوحانية والبدنيَّة في سنة ثمان وثمانين في العاشر مِنْ ربيعٍ الأوَّل، عند الفراغ مِنْ تأليف «لامع الدَّراري» حُرِمتُ مِنَ التَّصنيف والتَّأليف، وفي شوَّالٍ مِنَ السَّنة المذكورة لشدَّة نزول الماء بالعين الَّذي كان بدؤه منذ عشر سنين، حُرِمت مِنْ تدريس «صحيح البخاريِّ» كذلك.
          فَقَدِمْتُ _متأسِّفًا على حرماني مِنَ الاشتغال بالحديث النَّبويِّ_ إلى المدينة المنوَّرة رجاءَ التَّمتُّع ببركاتها، وفي أثناء إقامتي هاهنا جاش خاطري لطبع تأليفي القديم «جزء حجَّة الوداع» الَّذي كتبته سنة اثنتين وأربعين [1342هـ]، كما ذكرت ذلك مفصَّلًا في اختتام التَّأليف المذكور، وعند رجوعي إلى الهند سمعتُه مِنْ بعض أعزَّائي كما ذكر في اختتامه أيضًا، فبعد توضيح مجمَلاته وتفصيل إشاراته، طُبع مرَّتين، في سنة تسعين [1390هـ]، بمجرَّد لطف الله وكرمه، مع إلحاق «جزء العمرات» إليه.
          ثمَّ في أواخر سنة تسعين [1390هـ] قُدِّر لي الحضورُ عند الأقدام العالية، فجال بخاطري مستبركًا بهذه البقعة المباركة، أن أستمع الملاحظاتِ الَّتي جمعتُها عند تدريسي «لصحيح البخاريِّ» ممَّا يتعلَّق بتراجمه، مِنْ عزيزي الحاجِّ المَوْلَويِّ عبد الحفيظ المكِّيِّ سلَّمه اللهُ [تعالى]، والرَّجاءُ مِنَ البارئ الكريم أن يقدِّر لطباعته سبيلًا، فيكونَ هذا أيضًا نافعًا إن شاء الله [تعالى]، فإنَّ «جزء حجَّة الوداع» / أيضًا هكذا، أسمَعَنيه بعضُ أصدقائي فقد طُبع.
          وبهذا الرَّجاء شرعتُ في استماعه اليوم السَّاعة الرَّابعة ضحى الأربعاء، في الثَّامن والعشرين مِنْ ذي الحجَّة، سنة تسعين وثلاث مئة وألف، عند أقدامه العالية المباركة الشَّريفة، في المسجد النَّبويِّ، على صاحبه ألفُ ألفِ صلاةٍ وتحيَّة.
          ولو كَمَلَ هذا السَّعيُ الجميل فلا يُستبعد أن يكون تأويلَ رؤياي الَّتي رأيتُها بالمدينة المنوَّرة، في أوائل سنة أربع وثمانين وثلاث مئة وألفٍ مِنَ الهجرة، وسيأتي تفصيلُها حيث نذكر الكلام على عدم ذكر الإمام البخاريِّ الحمدَ والصَّلاةَ في بداية الكتاب(2) «الجامع الصَّحيح» إن شاء الله تعالى.
          ورأيتُ المناسبَ [ها]هنا أن أُدْرِجَ أوَّلًا الأصولَ السَّبعين المتعلِّقةَ بتراجم البخاريِّ، المستنبَطةَ مِنْ كلام المشايخ الَّتي ذكرتُها في مقدِّمة «لامع الدَّراري» حتَّى تجتمع موادُّ التَّراجم كلُّها في موضعٍ واحد.
          وقد ذكرتُ في بدايتها أنَّ المشايخ قد ألَّفوا في تراجم البخاريِّ تأليفاتٍ كثيرةً، ولكنْ في يومنا هذا ليست لدينا إلَّا رسالتين(3) فقط:
          إحداهما تأليفُ أستاذ الأساتذة مُسنِد الهند الشَّاهِ وليِّ الله الدِّهْلَويِّ(4)، رسالة وجيزة مسمَّاة بـ«شرح تراجم أبواب صحيح(5) البخاريِّ»، وستأتي جملةُ ما بها مِنَ المعاني في مواضعها مِنْ هذا التَّأليف إن شاء الله تعالى.
          والرِّسالة الثَّانية مِنْ تأليف أستاذِ الهند شيخ المشايخ مولانا الحاجِّ محمود حسن المعروف بشيخ الهند(6)، صدرِ(7) المدرِّسين بالجامعة القاسميَّة، المعروفة بدار العلوم بدِيُوبَنْدَ، المسمَّاة بـ«الأبواب والتَّراجم» وقد شرح التَّراجم إلى آخر كتاب العِلم إلَّا التَّرجمةَ الأخيرة منها باللُّغة الأُرْدِيَّة، وقد أدرجتُها بأسرِها في هذه الرِّسالة.
          وأيضًا قد ذكر حضرةُ شيخ الهند في آخر(8) رسالته بتحقيقه وتنقيحه وتفحُّصه فِهرسًا لبعض أبواب البخاريِّ، وليس فيها شيءٌ مِنْ كلامه، إنَّما هي إشاراتٌ فقط، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله تعالى.
          وقد استوعبتُ بأخذ(9) تراجم حضرة(10) شيخ الهند قُدِّس سرُّه بتمامها(11) لرؤيا رأيتُها في بداية دراسة البخاريِّ، فإنِّي قد قرأت «صحيح البخاريِّ» وأكثرَ كتبِ الحديث مرَّتين كما ذكرتُ ذلك في بداية مقدِّمة «لامع الدَّراري» في ذيل أسانيد هذا الفقير، أوَّلًا في سنة أربع وثلاثين مِنَ الهجرة [1334هـ] على والدي المرحوم قدَّس الله سرَّه العزيز، وثانيًا مِنْ سنة خمس وثلاثين [1335 هـ] في سنين متفرِّقة على شيخي ومُرشدي، حضرةِ مولانا الحاجِّ خليل أحمد المحدِّث السَّهارنفوريِّ(12) المهاجِر المدَنيِّ شارحِ أبي داود قدَّس الله تعالى(13) سرَّه العزيز.
          وقد ذكرت تفصيل ذلك في رسالتي المسمَّاة بـ<<آب(14) بيتي>> يعني «قصَّة حياتي» باللُّغة الأُرْديَّة، وهذا تعريبُه مختصَرًا:
          إنِّي كنتُ قد عزمتُ أوَّلًا أن أقرأ «جامعَي البخاريِّ والتِّرمذيِّ» على شيخي المكرَّم حضرةِ المحدِّث السَّهارنفوريِّ؛ إذ كان ⌂(15) مختصًّا بتدريسهما بالجامعة الشَّهيرة، بمظاهر العلوم بسهارنفورَ، والكتب الباقية كان يُدرِّسُها والدي المرحوم.
          فلمَّا شرعتُ في القراءة على والدي كتبَ الحديث سِوى البخاريِّ والتِّرمذيِّ فتركتُهما للشَّيخ ☼ لأنَّه كان أوَّلًا في سفره للحجاز المقدَّس، ثمَّ أَسَرتْه الحكومةُ الإنجليزيَّة وحَبَستْه في سجن نينيتال(16) مدَّةً لقيامه بحركةٍ لتحرير(17) بلاده ضدَّ الاستعمار الغاشم.
          ولكنْ بعدئذٍ نبَّهني أحدُ(18) أقربائي على أنَّ والدي متألِّم لعدم قراءتي عليه «الجامعَين»، فحرَّضني ذلك على قراءتهما عليه أيضًا.
          وقد اهتمَّ والدي ☼ (19) بتدريس البخاريِّ اهتمامًا بليغًا، حتَّى أنَّه وسَّع في وقت تدريس البخاريِّ بضمِّ ساعة «[سنن] النَّسائيِّ» إليه، وجعل يدرِّس النَّسائيَّ يوم الجمعة.
          وأنا أيضًا بالغتُ في الاهتمام له(20) حتَّى أنَّه لم يفُتْني أيُّ حديث، ولم أقرأ حديثًا إلَّا على وضوء، وقد التزمتُ في ذلك الزَّمانِ أن أصلِّي العِشاء بوضوء الظُّهر.
          ثمَّ إنَّ والدي ⌂ رحمةً واسعةً لبَّى داعيَ ربِّه في ذي القَعْدة مِنْ تلك السَّنة، / فازداد قلبي حبًّا وشغفًا به، وقد جَرت العادةُ بأنَّ المرء يَعرف قدرَ النِّعمة بعد زوالها، كما قيل:
فَقَدْتُ زَمَانَ الوَصْلِ والمَرْءُ جَاهِلٌ                     بِقَدْرِ لَذِيْذِ العَيْشِ قَبْلَ المَصَائِبِ
          وكنتُ عازمًا في حياة والدي ☼ ألَّا أقرأ «جامعَي البخاريِّ والتِّرمذيِّ» إلَّا على شيخي حضرة المحدِّث السِّهارنبوريِّ(21)، ولذا لم أشرع فيهما عند والدي ⌂ في البداية(22) كما تقدَّم.
          ثمَّ كما ذكرت آنفًا أنِّي اضطُررت للقراءة(23) عليه، ولكنَّه درَّسنيهما بصورة استأصلت كلَّ فكرة عن دراستهما مرَّة أخرى عند غيره ☼، وبعد وفاته زاد هذا الأثرُ حتَّى ثبت عكسُ ما كان(24) في البداية.
          ثم إنَّه لمَّا قدم حضرةُ الشَّيخِ(25) المحدِّث السِّهارنبوريِّ(26) مِنْ سجن نينيتال، بعد وفاة والدي ☼ بشهر، أمرني أن أقرأ عليه «جامعَي البخاريِّ والتِّرمذيِّ» مرًّة أخرى، فشرعتُ فيهما ممتثلًا لأمره الكريم.
          وأثناء هذه الدِّراسة رأيتُ في المنام أنَّ حضرةَ شيخِ الهند مولانا محمود حسن الدِّيُوبَنْديِّ قَّدس الله سرَّه العزيز يقول لي: اقرأ عليَّ البخاريَّ، فتحيَّرتُ مِنْ هذه الرُّؤيا العجيبة جدًّا لأنَّ حضرة شيخ الهند ☼ كان حينئذ أسيرًا في مالطه <<مالتا>> حيث سجنه الاستعمارُ البريطانيُّ لقيادته(27) حركة التَّحرير ضدَّهم(28)، فذكرتُها لسيِّدي حضرةِ الشَّيخ خليل أحمد المحدِّث السِّهارنفوريِّ، فقال: تأويلها أن تقرأ عليَّ البخاريَّ، وكان هذا التَّأويل في محلِّه ولا شكَّ فيه، إذ لا يكون مصداقَ شيخ الهند في الحديث إلَّا سيِّدي حضرةُ المحدِّث السِّهارنفوري في ذاك الزَّمان بالهند.
          ولكن الآن عند استماعي لهذه التَّراجم خطر ببالي أنَّ الأخذَ بتراجم حضرة شيخ الهند ☼ ونَشْرَها، إنَّما هو في حكم القراءة عليه ☼، فيمكن أن يكون هذا أيضًا مِنْ جملة تعبير تلك الرُّؤيا، ويناسب هذا على قولِ أحد أعزَّائي المخلِصين عزيزي المَوْلَويِّ محمَّد يوسف متالا: إنَّ الزَّمان الَّذي رأيتَ فيه هذه الرُّؤيا كان حضرة شيخ الهند ☼ حينئذ يصنِّف [فيه] هذه التَّراجم في سجن مالطه <<مالتا>>.
          ولا يذهب عليك أنَّه قد ذَكر في مقدِّمة «لامع الدَّراري» بحثًا طويلًا(29) عن التَّراجم، ولا(30) بدَّ مِنْ نقله هنا تكميلًا للفائدة.


[1] قوله: ((ونسلم)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((كتاب)).
[3] لعل الصواب: ((رسالتان)).
[4] محمود حسن بن ذو الفقار علي الحنفي الدِّيوبَنْديُّ المعروف بشيخ الهند، العلَّامة المحدِّث، ولد سنة 1268 هـ ونشأ بِدِيُوبَنْدَ، وقرأ العلم على السَّيِّد أحمد الدِّهْلويِّ ومولانا يعقوب بن مملوك العليِّ، والعلَّامة محمَّد قاسم وغيرهم مِنَ العلماء، ولي التَّدريس في المدرسة العربيَّة بديوبند سنة 1292 أجازه الشَّيخ رشيد أحمد الكنكوهيُّ، انتهت إليه رئاسة الفتيا والتَّدريس في آخر أمره، سافر إلى الحجاز للحجِّ والزِّيارة غير مرَّة، وأدرك بمكَّة الشَّيخَ إمداد الله العمريَّ التَّهانويَّ، والعلَّامةَ رحمةَ الله بنَ خليل الرَّحمن الكرانويَّ، وبالمدينة المنوَّرة الشَّيخ عبد الغنيِّ بن أبي سعيد العمريَّ الدِّهلويَّ، وضع خطَّة لتحرير الهند مِنْ حكم الإنجليز، فأُلقي القبض عليه في سنة 1335 هـ، وسجن في مالطه وأطلق سراحه سنة 1338 هـ.
كان قليل الاشتغال بالتَّأليف بالنِّسبة إلى غزارة علمه وكثرة درسه، له تعليقات لطيفة على «سنن أبي داود»، «جهد المقلِّ في تنزيه المعزِّ والمذلِّ»، كتاب له بالأردو في «مسألة إمكان الكذب وامتناعه»، و«الأدلَّة الكاملة في جوانب السُّؤالات العشرة» للشَّيخ محمَّد حسين البتالويِّ، و«إيضاح الأدلَّة في جواب مصباح الأدلَّة»، ت سنة 1339 هـ. نزهة الخواطر:3/1377، التَّرجمة:495.
[5] قوله: ((أبواب صحيح)) ليس في (المطبوع).
[6] مولانا خليل أحمد بن مجيد علي، الأنصاريُّ السهارنبوري الحنفيُّ الشيخ العالم الفقيه أحد العلماء الصالحين وكبار الفقهاء والمحدِّثين، ولد سنة 1269 هـ وقرأ العلم على خاله الشيخ يعقوب بن مملوك العلي النانوتويِّ، والشَّيخ محمَّد مظهر النانوتويِّ وعلى غيره، وانتفع بصحبة الحاج إمداد الله المهاجر، وأجازه الشيخ الإمام العلَّامة رشيد أحمد الكنكوهي، واختصَّ به وانتفع به انتفاعًا كبيرًا، وأجازه الشَّيخ محمَّد مظهر النانوتويُّ والشيخ عبد القيُّوم البُرْهانَويُّ، والشيخ أحمد دحلان مفتي الشَّافعيَّة، والشَّيخ عبد الغنيِّ بن أبي سعيد المجدديُّ المهاجر، والسيِّد أحمد البرزنجيُّ، له مِنَ المصنَّفات: «المهنَّد على المفنَّد»، و«إتمام النِّعم على تبويب الحكم»، و«مطرقة الكرامة على مرآة الإمامة»، و«هدايات الرَّشيد إلى إفحام العنيد»، و«بذل المجهود في شرح سنن أبي داود». توفِّي في المدينة المنورة سنة 1346هـ. نزهة الخواطر:3/1222، التَّرجمة 130.
[7] في (المطبوع): ((رئيس)).
[8] قوله: ((آخر)) ليس في (المطبوع).
[9] في (المطبوع): ((بتوضيح)).
[10] قوله: ((حضرة)) ليس في (المطبوع).
[11] قوله: ((بتمامها)) ليس في (المطبوع).
[12] هامش من الأصل « مصيف معروف في الهند».
[13] قوله: ((تعالى)) ليس في (المطبوع).
[14] في (المطبوع): ((آپ)).
[15] قوله: ((تعالى)) ليس في (المطبوع).
[16] شرح النووي على صحيح مسلم:1/186.
[17] في (المطبوع): ((تحرير)).
[18] في (المطبوع): ((بعض)).
[19] في (المطبوع): ((نور الله مرقده)).
[20] في (المطبوع): ((به)).
[21] في (المطبوع): ((السهارنفوري)).
[22] في (المطبوع): ((في أول الأمر)).
[23] في (المطبوع): ((في القراءة)).
[24] في (المطبوع): ((قال)).
[25] قوله: ((الشيخ)) ليس في (المطبوع).
[26] في (المطبوع): ((السهارنفوري)).
[27] في (المطبوع): ((لقيادة)).
[28] في (المطبوع): ((ضده)).
[29] في (المطبوع): ((ذُكر... بحثٌ طويل)).
[30] في (المطبوع): ((لا)).